وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ إِلَى أَنَّ (أَنَّى) فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْمَكَانِ لَا بِمَعْنَى الْكَيْفِيَّةِ وَالصِّفَةِ، وَقَالُوا : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي إِبَاحَةِ الْإِتْيَانِ فِي غَيْرِ الْمُزْدَرِعِ وَالْحَرْثِ فَمَعْنَاهَا فِي أَيِّ النَّافِذَتَيْنِ شِئْتُمْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : إِنَّ جُنُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالرِّوَايَةِ، هُوَ الَّذِي حَمَلَ بَعْضَهُمْ عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَتَبَرَّأُ مِنْهُ عِبَارَتُهَا الْعَالِيَةُ، وَنَزَاهَتُهَا السَّامِيَةُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى ذَوْقِ التَّعْبِيرِ وَمُرَاعَاةِ الْأَدَبِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ كَمَا رَأَوْا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَدْ فَاتَهُمْ فَهْمُ حُكْمِهَا، كَمَا فَاتَهُمْ حِكْمَتُهَا وَنَزَاهَتُهَا وَأَدَبُهَا، وَأَقُولُ : إِنَّ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ (أَنَّى شِئْتُمْ) هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ لَا يَشْتَبِهُ فِيهِ مَنْ لَهُ ذَوْقُ الْعَرَبِيَّةِ، وَالرِّوَايَاتُ مُتَعَارِضَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَأَهْلِ السُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا حَظْرُ الْيَهُودِ إِتْيَانَ الْحَرْثِ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الْوَلَدَ يَجِيءُ أَحْوَلَ إِذَا كَانَ الْعَلُوقُ بِالْوِقَاعِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَتُكَذِّبُهُمُ التَّجَارُبُ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي إِبَاحَةِ الْخُرُوجِ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ