وموقع ﴿ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم﴾ قبل قوله :﴿وقاتلوا في سبيل الله﴾ موقع ذكر الدليل قبل المقصود، وهذا طريق من طرق الخطابة أن يقدم الدليل قبل المستدل عليه لمقاصد كقول علي رضي الله عنه في بعض خطبه لما بلغه استيلاء جند الشام على أكثر البلاد، إذ افتتح الخطبة فقال :" ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها أنبئت بُسْراً هو ابن أبي أرطأة من قادة جنود الشام قد اطلع اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم" فقوله :" ما هي إلا الكوفة" موقعه موقع الدليل على قوله :" لأظن هؤلاء القوم إلخ" وقال عيسى بن طلحة لما دخل على عروة بن الزبير حين قطعت رجله " ما كنا نعدك للصراع، والحمد لله الذي أبقى لنا أكثرك : أبقى لنا سمعك، وبصرك، ولسانك، وعقلك، وإحدى رجليك" فقدم قوله : ما كنا نعدك للصراع، والمقصود من مثل ذلك الاهتمام والعناية بالحجة قبل ذكر الدعوى تشويقاً للدعوى، أو حملاً على التعجيل بالامتثال. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٢ صـ ٤٧٥ ـ ٤٧٦﴾
وقال أبو حيان :
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى متى ذكر شيئاً من الأحكام التكليفية، أعقب ذلك بشيء من القصص على سبيل الاعتبار للسامع، فيحمله ذلك على الانقياد وترك العناد، وكان تعالى قد ذكر أشياء من أحكام الموتى ومن خلفوا، فأعقب ذلك بذكر هذه القصة العجيبة، وكيف أمات الله هؤلاء الخارجين من ديارهم، ثم أحياهم في الدنيا، فكما كان قادراً على إحيائهم في الدنيا هو قادر على إحياء المتوفين في الآخرة، فيجازي كلاَّ منهم بما عمل.
ففي هذه القصة تنبيه على المعاد، وأنه كائن لا محالة، فيليق بكل عاقل أن يعمل لمعاده : بأن يحافظ على عبادة ربه، وأن يوفي حقوق عباده.