لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يُضِيف إلى ما أصابه من مَبادىء الوباء مَشَقّات السفر، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فَجْوَة ومَضِيق، ولذلك يقال : ما فرّ أحد من الوباء فسَلِم ؛ حكاه ابن المدائني. ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ﴾ ولعله إن فرّ ونجا يقول : إنما نجوت من أجل خروجي عنه. فيسوء اعتقاده. وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه، ولما فيه من تخلية البلاد : ولا تخلو من مستَضْعَفين يصعب عليهم الخروج منها، ولا يتأتّى لهم ذلك، ويتأذّون بخلوِّ البلاد من المياسير الذين كانوا أركاناً للبلاد ومَعُونَةً للمستضعفين.
وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدَم عليه أحدٌ أخْذاً بالحَزْم والحَذَر والتحرّز من مواضع الضرر، ودفْعاً للأوهام المشوِّشة لنفس الإنسان ؛ وفي الدخول عليه الهلاك، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى، فإنّ صيانة النفس عن المكروه واجبةٌ، وقد يُخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول : لولا دخولي في هذا المكان لما نَزَل بي مكروه. فهذه فائدة النّهْي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها، والله أعلم. وقد قال ابن مسعود : الطاعون فِتْنَةٌ على المقيم والفارّ ؛ فأما الفارّ فيقول : فبفراري نجوت، وأما المقيم فيقول : أقمتُ فمتّ ؛ وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجْذُوم فقال : ما سمعت فيه بكراهة، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خِيفَةَ أن يفزعه أو يُخيفه شيء يقع في نفسه ؛ " قال النبيّ ﷺ في الوباء :" إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه" " وسئل أيضاً عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض، فهل يُكره الخروج منها ؟ فقال : ما أرى بأساً خرج أو أقام.