وبين أن الغَرْفة كافَّةٌ ضررَ العطش عند الحَزَمة الصابرين على شَظَف العيْش الذين هَمُّهم في غير الرفاهية، كما قال عروة :
وأحْسُوا قَرَاح الماءِ والماءُ باردُ...
قلت : ومن هذا المعنى قوله عليه السلام :" حسْب المرء لُقيْمات يُقِمن صلبه " وقال بعض من يتعاطى غوامض المعاني : هذه الآية مثلٌ ضربه الله للدنيا فشبهها الله بالنهر والشارب منه والمائل إليها والمستكثر منها، والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهِد فيها، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة. (١)
قلت : ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر، لكن معناه صحيح من غير هذا. أ هـ ﴿تفسير القرطبى حـ ٣ صـ ٢٥١﴾
وقال ابن عاشور :
تسمية هذا التكليف ابتلاء تقريب للمعنى إلى عقولهم لأن المقصود إظهار الاعتناء بهذا الحكم، وأن فيه مرضاة الله تعالى على الممتثل، وغضبه على العاصي، وأمثال هذه التقريبات في مخاطبات العموم شائعة، وأكثر كلام كتب بني إسرائيل من هذا القبيل.
والظاهر أن الملك لما علم أنه سائر بهم إلى عدو كثير العدد، وقوي العهد أراد أن يختبر قوة يقينهم في نصرة الدين، ومخاطرتهم بأنفسهم وتحملهم المتاعب وعزيمة معاكستهم نفوسهم فقال لهم إنكم ستمرون على نهر، وهو نهر الأردن، فلا تشربوا منه فمن شرب منه فليس مني، ورخص لهم في غرفة يغترفها الواحد بيده يبل بها ريقه، وهذا غاية ما يختبر به طاعة الجيش، فإن السير في الحرب يعطش الجيش، فإذا وردوا الماء توافرت دواعيهم إلى الشرب منه عطشاً وشهوة، ويحتمل أنه أراد إبقاء نشاطهم : لأن المحارب إذا شرب ماء كثيراً بعد التعب، انحلت عراه ومال إلى الراحة، وأثقله الماء.
والعرب تعرف ذلك قال طفيل يذكر خيلهم :
فلما شَارَفَتْ أَعلام طي...
وطيٌّ في المَغَار وفي الشعاب
(١) ذكر هذا الكلام الماوردى فى النكت والعيون حـ ١ صـ ٣١٨}