الثاني : أَنَّ مَنْ جعل الماءَ في فمه، وتمضمض به، ثم أخرجه فإنّه يصدق عليه أَنَّهُ ذاقه وطعمه، ولا يصدُق عليه أَنَّه شربه، فلو قال : ومن لم يشربه فإِنَّهُ مني، كان المنعُ مقصوراً على الشّرب. فلما قال :﴿ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ ﴾ حصل المنعُ في الشُّربِ، والمضمضة، ومعلومٌ أَنَّ هذا التَّكليف أَشَقُّ، فإِنَّ الممنُوع من الشُّربِ، إِذَا تَمَضْمضَ بالماءِ وجد نوع خِفَّةٍ وراحةٍ.
قوله :﴿ إِلاَّ مَنِ اغترف ﴾ منصوبٌ على الاستثناء، وفي المُستَثنى منه وجهان :
الصَّحيح أَنَّهُ الجملةُ الأولى، وهي :﴿ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾، والجملةُ الثانيةُ معترِضةٌ بين المُستَثنى والمُستَثنى مِنْهُ وأصلُها التَّأخيرِ، وإِنَّما قُدِّمَتْ، لأنها تَدلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهوم، فإنَّه لمَّا قال تعالى :﴿ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾، فُهِمَ منه أَنَّ من لم يشرب فإنَّه منه، فَلَمَّا كانت مدلولاً عليها بالمفهوم، صارَ الفصلُ بها كلا فصلٍ.
وقال الزمخشريُّ : والجُمْلَةُ الثَّانيةُ في حُكم المُتَأَخِّرة، إلاَّ أَنَّها قُدِّمَتْ للعناية، كما قُدِّمَتْ للعناية، كما قُدِّمَ " والصَّابِئُونَ " في قوله :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون ﴾ [ المائدة : ٦٩ ].
والثاني : أَنَّهُ مستثنى من الجملة الثَّانية، وإليه ذهب أبو البقاء. قال شهاب الدين : وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أَنَّ المعنى : ومَنْ لم يطعمْه فإِنَّهُ مِنِّي، إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرفة بيده ؛ فإنه ليس مني، لأَنَّ الاسْتثناء من النَّفْي إثباتٌ، ومن الإِثبات نفيٌ، كما هو الصَّحيحُ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى ؛ لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غرفةً واحدةً.


الصفحة التالية
Icon