والمراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقْبل خطأ الفهم والتأويل لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عَرض الدنيا، والمعنى أن الله شاء اقتتالهم فاقتتلوا، وشاء اختلافهم فاختلفوا، والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقديرِ لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بلَوْ كقول طرفة :
فلو شاء ربي كنتُ قيس بن خالد
ولو شاء ربي كنتُ عَمْرو بن مرثد...
وقوله :﴿ ولكن اختلفوا ﴾ استدراك على ما تضمنه جواب لو شاء الله : وهو ما اقتتل، لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لِجواب لوْ وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لَمَا اقتتلوا.
وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تَرْكَهم الاقتتال، هو أنه خلَق داعية الاختلاف فيهم، فبتلك الداعية اختلفوا، فجرهم الخلاف إلى أقصاه وهو الخلاف في العقيدة، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطأ أهل الدين فيه إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفر به، وإن كان المراد اختلاف أمممِ الرسل كلٍ للأخرى كما في قوله :﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ﴾ [ البقرة : ١١٣ ]، فالإيمان والكفر في الآية ظاهر، أي فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتّبعه ومنهم من كفر به فعاداه، فاقتتل الفريقان.


الصفحة التالية
Icon