لباب التأويل، ج ١، ص : ٢٦٥
كناية عن غير مذكور، وقيل : معناه فاعلموا وبينوا لأن أصل الشهادة العلم والبيان وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ يعني قال اللّه يا معشر الأنبياء وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعلى أتباعكم أو قال للملائكة وأنا معكم من الشاهدين عليهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
فَمَنْ تَوَلَّى أي أعرض عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ونصرته بَعْدَ ذلِكَ الإقرار فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن الإيمان والطاعة. قوله عز وجل : أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فادعى كل فريق منهم أنه على دين إبراهيم عليه السلام فاختصموا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا : لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فأنزل اللّه أفغير دين اللّه الهمزة للاستفهام والمراد منه الإنكار والتوبيخ يعني أفبعد أخذ الميثاق عليهم ووضوح الدلائل لهم أن دين إبراهيم هو دين اللّه الإسلام. تبغون قرئ بالتاء على خطاب الحاضر أي أفغير دين اللّه تطلبون يا معشر اليهود والنصارى وقرى بالياء على الغيبة ردا على قوله فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وَلَهُ أَسْلَمَ أي خضع وانقاد مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً الطوع الانقياد والاتباع بسهولة والكره ما كان من ذلك بمشقة وإباء من النفس. واختلفوا في معنى قوله طوعا وكرها فقيل : أسلم أهل السموات طوعا وأسلم بعض أهل الأرض طوعا وبعضهم كرها من خوف القتل والسبي، وقيل : أسلم المؤمن طوعا وانقاد الكافر كرها، وقيل هذا في يوم أخذ الميثاق حين قال : ألست بربكم؟ قالوا : بلى فمن سبقت له السعادة قال ذلك طوعا، ومن سبقت له الشقاوة قال ذلك كرها.
وقيل : أسلم المؤمن طوعا فنفعه إسلامه يوم القيامة والكافر يسلم كرها عند الموت في وقت اليأس فلم ينفعه ذلك في القيامة وقيل إنه لا سبيل لأحد من الخلق إلى الامتناع على اللّه في مراده فأما المسلم فينقاد للّه فيما أمره أو نهاه عنه طوعا وأما الكافر فينقاد للّه كرها في جميع ما يقتضي عليه ولا يمكنه دفع قضائه وقدره عنه وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قرئ بالتاء والياء والمعنى أن مرجع الخلق كلهم إلى اللّه يوم القيامة ففيه وعيد عظيم لمن خالفه في الدنيا. قوله عز وجل :
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ لما ذكر اللّه عز وجل في الآية المتقدمة أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدقا لما معهم بين في هذه الآية أن من صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم مصدقا لما معهم فقال تعالى : قل آمنا باللّه وإنما وحد الضمير في قوله قل وجمع في قوله آمنا باللّه لأنه إنما خاطبه بلفظ الواحد ليدل هذا الكلام على أنه لا يبلغ هذا التكليف عن اللّه تعالى إلى الخلق إلا هو. ثم قال : آمنا باللّه تنبيها على أنه حين قال هذا القول وافقه أصحابه فحسن الجمع في قوله آمنا، ومعنى الآية : قل يا محمد صدقنا باللّه أنه ربنا وإلهنا لا إله غيره ولا رب سواه وإنما قدم الإيمان باللّه على غيره لأنه الأصل وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعني وقل يا محمد وصدقنا أيضا بما أنزل علينا من وحيه وتنزيله وإنما قدم ذكر القرآن لأنه أشرف الكتب وأنه لم يحرف ولم يبدل وغيره حرف وبدل وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى إنما خص هؤلاء الأنبياء بالذكر لأن أهل


الصفحة التالية
Icon