لباب التأويل، ج ١، ص : ٢٧٠
روي عن الضحاك أن يعقوب كان نذر لئن وهب اللّه له اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح أحدهم. وفي رواية آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة وقال : يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع؟
فعالجه فلم يصرع أحدهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك ثم قال أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك قد نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولدك، فجعل اللّه لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجا، فلما قدم يعقوب بيت المقدس أراد ذبح ولده ونسي ما قال له الملك فأتاه الملك وقال له : إنما غمزتك للمخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ذبح ولدك.
وقال ابن عباس في آخرين أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه العيص، وكان يعقوب رجلا بطشا قويا فلقيه ملك في صورة رجل فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب وصعد إلى السماء ويعقوب ينظر فهاج به عرق النسا ولقي منه شدة فكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله رغاء أي صياح، فحلف يعقوب لئن شفاه اللّه أن لا يأكل عرقا ولا طعاما فيه عرق فحرمه على نفسه فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق ويخرجونها من اللحم ولا يأكلونها، وقيل لما أصاب يعقوب ذلك وصف له الأطباء أن يجتنب لحوم الإبل فحرمها يعقوب على نفسه، وقيل إنما حرم يعقوب لحوم الجزور تعبدا للّه تعالى وسأل ربه أن تنجز فحرمه اللّه على ولده وهو ظاهر الآية لأن اللّه تعالى قال : كل الطعام كان حلّا لبني إسرائيل، ثم استثنى ما حرم إسرائيل على نفسه فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراما على بني إسرائيل أما قوله من قبل أن تنزل التوراة فمعناه أن قبل إنزال التوراة كان كل أنواع الطعام حلالا لبني إسرائيل سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه أما بعد نزول التوراة فقد حرم اللّه تعالى عليهم أشياء كثيرة من أنواع الطعام ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة فقال السدي : حرم اللّه عليهم في التوراة ما كانوا حرموه على أنفسهم قبل نزولها وقال عطية : إنما كان حراما عليهم بتحريم إسرائيل فإنه قال : إن عافاني اللّه تعالى لا يأكله ولد لي ولم يكن ذلك محرما عليهم في التوراة وقال الكلبي : لم يحرمه اللّه في التوراة وإنما حرم عليهم بعد نزول التوراة لظلمهم كما قال تعالى : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وقال تعالى : وعلى الذين هادوا حرمنا إلى أن قال ذلك جزيناهم ببغيهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم اللّه عليهم طعاما طيبا أو صب
عليهم رجزا وهو الموت. وقال الضحاك : لم يكن شيء من ذلك حراما عليهم ولا حرمه اللّه في التوراة، وإنما حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم ثم أضافوا تحريمه للّه عز وجل فكذبهم اللّه تعالى فقال اللّه تعالى : قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ يعني قل لهم يا محمد فأتوا بالتوراة فَاتْلُوها أي فاقرؤوها وما فيها حتى يتبين أن الأمر كما قلتم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني فيما ادعيتم فلم يأتوا بها وخافوا الفضيحة فقال تعالى :
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦)
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
الافتراء اختلاق الكذب والافتراء الكذب والقذف والإفساد وأصله من فري الأديم إذا قطعه لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ولم يكن محرما قبله فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
أي هم المستحقون للعذاب لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين من بعدهم وهذا رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم فيما بقي عليهم مما نطق به القرآن من تعديد مساويهم التي كانوا يرتكبونها قُلْ صَدَقَ اللَّهُ يعني قل صدق اللّه يا محمد فيما أخبر أن ذلك النوع من الطعام صار حراما على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالا لهم فصح القول بالنسخ، وبطل قول اليهود وقيل معناه صدق اللّه في قوله أن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة


الصفحة التالية
Icon