لباب التأويل، ج ١، ص : ٢٨٤
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لما ذكر اللّه أنه لا يريد ظلما للعالمين لأنه لا حاجة به إلى الظلم، وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد مالا أو عزا أو سلطانا أو يتم نقصا فيه بما يظلم به غيره ولما كان اللّه عز وجل مستغنيا عن ذلك، وله صفة الكمال أخبر أن له ما في السموات وما في الأرض وأن جميع ما فيهما ملكه وأهلهما عبيده، وإذا كان كذلك يستحيل في حقه سبحانه وتعالى أن يظلم أحدا من خلقه لأنهم عبيده، وفي قبضته ثم قال : وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يعني وإليه مصير جميع الخلائق المؤمن والكافر والطائع والعاصي فيجازي الكل على قدر استحقاقهم ولا يظلم أحدا منهم.
قوله عز وجل : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ سبب نزول هذه الآية أن مالك بن الصيف ووهب بن يهودا اليهوديين قالا لعبد اللّه بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة : نحن أفضل منكم وديننا خير من دينكم الذي تدعوننا إليه فأنزل اللّه هذه الآية واختلف في لفظة كان فقيل هي بمعنى الحدوث والوقوع والمعنى حدثتم ووجدتم وخلقتم خير أمة وقيل كان هنا ناقصة وهي عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض ولا تدل على انقطاع طارئ بدليل قوله : وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فعلى هذا التقدير يكون المعنى : كنتم في علم اللّه خير أمة وقيل كنتممذكورين في الأمم الماضية بأنكم خير أمة، وقيل كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة وقيل معناه كنتم منذ آمنتم خير أمة وقيل قوله خير أمة تابع لقوله : وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ والتقدير أنه يقال لهم عند دخول الجنة : كنتم في دنياكم خير أمة فلهذا استحققتم ما أنتم فيه من بياض الوجوه والنعم المقيم، وقيل كنتم بمعنى أنتم وقيل يحتمل أن يكون كان بمعنى صار فمعنى قوله كنتم أي صرتم خير أمة. فأما المخاطبون بهذا من هم ففيه خلاف قال ابن عباس في قوله كنتم خير أمة هم الذين هاجروا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وروى ابن جرير عن عمر بن الخطاب قال لو شاء اللّه تعالى لقال : أنتم فكنا كلنا ولكن في خاصة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومن صنع مثل ما صنعتم كانوا خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وقال الضحاك : هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعني به كانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر اللّه عز وجل المسلمين باتباعهم وطاعتهم. (ق) عن عمران بن حصين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال :«خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن» زاد في رواية :«و يحلفون ولا يستحلفون». (ق) عن ابن مسعود أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال :«خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» قوله :«خير الناس قرني» يعني أصحابي والقرن أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران فكأنه الزمان الزمان الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل القرن أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة. (ق) عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» النصيف النصف. وقال ابن عباس في رواية عطاء في قوله : كنتم خير أمة هم أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قال الزّجاج قوله كنتم خير أمة الخطاب فيه مع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولكنه عام في كل أمة ونظيره قوله :«كتب عليكم الصيام، كتب عليكم القصاص» فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ، ولكنه عام في حق الكل كذا هاهنا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول في قوله تعالى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال أنتم الأمة تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على اللّه تعالى أخرجه الترمذي وقال حديث حسن