لباب التأويل، ج ١، ص : ٢٩٢
وذلك معصية فكيف مدحهما اللّه تعالى بقوله واللّه وليهما. قلت الهم قد يراد به العزم وقد يراد به حديث النفس وإذا كان كذلك فحمل الهم على حديث النفس هنا أولى واللّه تعالى لا يؤاخذ بحديث النفس ويعضده قول ابن عباس إنهم أضمروا أن يرجعوا فلما عزم اللّه لهم على الرشد وثبتوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مدحهم اللّه تعالى بقوله واللّه وليهما (ق) عن جابر قال : نزلت فينا : إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما قال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل لقول اللّه واللّه وليهما ففيه الاستبشار بما حصل لهم من الشرف العظيم، وإنزاله فيهم آياته ناطقة مفصحة بأن اللّه وليهم وأن تلك الهمة التي هموها ما أخرجتهم من ولاية اللّه تعالى. وقوله تعالى : وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ التوكل تفعل من وكل أمره إلى غيره إذا اعتمد عليه في كفايته والقيام به، وقيل التوكل هو العجز والاعتماد على الغير وقيل هو تفويض الأمر إلى اللّه تعالى ثقة بحسن تدبيره فأمر اللّه عباده المؤمنين أن لا يتوكلوا إلّا عليه وأن لا يفوضوا أمرهم إلّا إليه.
قوله عز وجل : وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ بدر اسم موضع بين مكة والمدينة معروف وقيل هو اسم لبئر هناك وكانت البئر لرجل يقال له بدر فسميت به. ذكر اللّه المؤمنين منته عليهم بالنصر يوم بدر وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ جمع ذليل وهو جمع قلة وأراد به قلة العدد فإن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر وفي رواية وثلاثة عشر رجلا والمراد بذلتهم ضعف الحال وقلة السلاح والمركوب والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو وذلك أنهم خرجوا على مواضح وكان النفر منهم يتعقب على البعير الواحد. وكان أكثرهم رجالة ولم يكن معهم إلّا فرس واحد وكان عدوهم من كفار قريش في حال الكثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس وكان معهم السلاح والشوكة فنصر اللّه المؤمنين مع قلتهم على عدوهم مع كثرتهم فَاتَّقُوا اللَّهَ يعني في الثبات مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته. قوله عز وجل : إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ اختلف المفسرون في أن هذا الوعد بإنزال الملائكة هل حصل يوم بدر أو يوم أحد على قولين أحدهما أنه كان يوم بدر. قال قتادة : كان هذا يوم بدر أمدهم اللّه بألف من الملائكة كما قال : إن تستغيثون ربكم فاستجاب لكم :«أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين» ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف كما ذكر هاهنا بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فصبروا يوم بدر واتقوا فأمدهم اللّه بخمسة آلاف كما وعد.
قال ابن عباس : لم تقاتل الملائكة في معركة إلّا يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عددا أو مددا، وقال الحسن : هؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال الشعبي : بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل اللّه تعالى ألن يكفيكم إلى قوله مسومين فبلغ كرزا الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدهم فلم يمدهم اللّه أيضا بالخمسة آلاف وكانوا قد أمدوا بألف من الملائكة، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال يوم بدر :«هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب» واحتج لصحة هذا القول أيضا بأن اللّه تعالى قال قبل هذه الآية ولقد نصركم اللّه ببدر وأنتم أذلة وظاهر هذا يقتضي أن اللّه نصرهم حين قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف ولأن العدد والعدد كانت يوم بدر قليلة وكان الاحتياج إلى الإمداد أكثر. القول الثاني إن هذا الوعد بإنزال الملائكة كان يوم أحد وهو قول عكرمة والضحاك ومقاتل. قال عمير بن إسحاق : لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له كلما فني النبل أتاه به فنثره وقال ارم أبا إسحاق ارم أبا إسحاق مرتين فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف (ق) عن سعد بن أبي وقاص قال :«رأيت عن يمين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل، ولا بعد يعني جبريل وميكائيل» واحتج لصحة هذا القول بأن المدد كان يوم بدر بألف من الملائكة كما نص عليه في سورة