لباب التأويل، ج ١، ص : ٣٥
اللّه إليهم جنا من الملائكة يقال لهم الجان ورأسهم إبليس وهم خزان الجنان فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجن إلى جزائر البحور وشعوب الجبال وسكنوا هم الأرض وخفف اللّه عنهم العبادة وأعطى اللّه إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة، وكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علما فكان يعبد اللّه تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب وقال في نفسه : ما أعطاني اللّه هذا الملك إلّا لأني أكرم الملائكة عليه فقال له ولجنده إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي إني خالق خليفة يعني بدلا منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة والمراد بالخليفة هنا آدم عليه الصلاة والسلام لأنه خلف الجن وجاء بعدهم.
وقيل لأنه يخلفه غيره والصحيح إنه إنما سمي خليفة لأنه خليفة اللّه في أرضه لإقامة حدوده وتنفيذ قضاياه قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها أي بالمعاصي وَيَسْفِكُ الدِّماءَ أي بغير حق كما فعل الجن. فإن قلت من أين عرفوا ذلك حتى قالوا هذا القول؟ قلت يحتمل أن يكونوا عرفوا ذلك بإخبار اللّه إياهم أو قاسوا الشاهد على الغائب، وقيل إنهم لما رأوا أن آدم خلق من أخلاط مركبة علموا أنه يكون فيه الحقد والغضب ومنهما يتولد الفساد وسفك الدماء فلهذا قالوا ذلك. وقيل لما خلق اللّه تعالى النار خافت الملائكة، وقالوا لمن خلقت هذه النار؟ قال لمن عصاني فلما قال إني جاعل في الأرض خليفة قالوا هو ذلك. فإن قلت الملائكة معصومون فكيف وقع منهم هذا الاعتراض. قلت ذهب بعضهم إلى أنهم غير معصومين واستدل على ذلك بوجوه منها قوله أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ومن ذهب إلى عصمتهم أجاب عنه بأن هذا السؤال إنما وقع على سبيل التعجب لا على سبيل الإنكار والاعتراض فإنهم تعجبوا من كمال حكم اللّه تعالى وإحاطة علمه بما خفي عليهم، ولهذا أجابهم بقوله إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ وقيل : إن العبد المخلص في حب سيده يكره أن يكون له عبد آخر يعصيه فكان سؤالهم على وجه المبالغة في إعظام اللّه عز وجل : وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي نقول : سبحان اللّه وبحمده وهي صلاة الخلق وعليها يرزقون (م) عن أبي ذر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل أي الكلام أفضل قال «ما اصطفى اللّه لملائكته أو لعباده سبحان اللّه وبحمده» قال ابن عباس رضي اللّه عنهما كل ما جاء في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة فيكون المعنى ونحن نصلي لك. وقيل أصل التسبيح تنزيه اللّه عما لا يليق بجلاله فيكون المعنى، ونحن ننزهك عن كل سوء ونقيصة.
ومعنى بحمدك حامدين لك أو متلبسين بحمدك، فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك وَنُقَدِّسُ لَكَ أصل التقديس التطهير أن نطهرك عن النقائص وكل سوء ونصفك بما يليق بعزك وجلالك من العلو والعظمة واللام صلة وقيل معناه نطهر أنفسنا لطاعتك وعبادتك قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قيل إنه جواب لقول الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها فقال تعالى : أَعْلَمُ من وجوه المصلحة والحكمة ما لا تعلمون. وقيل أعلم أن فيهم من يعبدني ويطيعني وهم الأنبياء والأولياء والصالحون، ومن يعصيني منكم وهو إبليس، وقيل أعلم أنهم يذنبون ويستغفرون فاغفر لهم.
(فصل : في ماهية الملائكة وقصة خلق آدم عليه السلام) قيل إن الملائكة أجسام لطيفة هوائية خلقت من النور تقدر أن تتشكل بأشكال مختلفة، مسكنهم السموات عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«إنى أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلّا وملك واضع جبهته للّه ساجدا» أخرجه الترمذي بزيادة، وقال حديث حسن غريب.
وأما صفة خلق آدم عليه السلام فقال وهب بن منبه : لما أراد اللّه تعالى أن يخلق آدم أوحى إلى الأرض أني خالق منك خليقة منهم من يطيعني ومنهم من يعصيني فمن أطاعني أدخلته الجنة، ومن عصاني أدخلته النار. قالت الأرض أتخلق مني خلقا يكون للنار قال نعم. فبكت الأرض فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة، فبعث اللّه إليها جبريل ليأتيه بقبضة منها من أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها، فلما أتاها ليقبض منها قالت : أعوذ بعزة اللّه الذي أرسلك إليّ أن لا تأخذ مني شيئا فرجع جبريل إلى مكانه وقال : يا رب استعاذت بك مني فكرهت أن أقدم