لباب التأويل، ج ١، ص : ٣٦٥
فليس المراد منه أن التزويج شرط لوجوب الحد عليه بل المراد منه التنبيه على أن المملوك وإن كان محصنا فلا رجم عليه إنما حده الجلد، بخلاف الحر فحد الأمة ثابت بهذه الآية وبيان أنه بالجلد لا بالرجم ثابت بالحديث وهو ما روي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول :«إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر» أخرجاه في الصحيحين قوله ولا يثرب عليها أي لا يعيرها والتثريب التأبين والتعيير والاستقصاء في اللوم قال الشيخ محيي الدين النواوي : وهذا البيع المأمور به في الحديث مستحب وليس بواجب عندنا وعند الجمهور وقال داود وأهل الظاهر هو واجب وفيه جواز بيع الشيء الثمين بالثمن الحقير وهذا البيع المأمور به يلزم صاحبه أن يبين حالها للمشتري لأنه عيب والإخبار بالعيب واجب. فإن قيل كيف يكره شيئا ويرتضيه لأخيه المسلم.
فالجواب لعلها تستعف عند المشتري بأن يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته أو بالإحسان إليها أو يزوجها أو غير ذلك واللّه أعلم. ذلِكَ أشار إلى نكاح الأمة لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ يعني الزنى والمعنى ذلك لمن خاف أن تحمله شدة الشبق والغلمة وشدة الشهوة على الزنى وإنما سمي الزنى بالعنت لما يعقبه من المشقة وهي شدة العزوبة فأباح اللّه تعالى نكاح الأمة بثلاثة شروط : عدم القدرة على نكاح الحرة وخوف العنت وكون الأمة مؤمنة وَأَنْ تَصْبِرُوا يعني عن نكاح الإماء متعففين خَيْرٌ لَكُمْ يعني كيلا يكون الولد عبدا رقيقا وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا كالتوليد لما تقدم يعني أنه تعالى غفر لكم ورحمكم حيث أباح لكم ما أنتم محتاجون إليه قوله تعالى :
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ اللام في قوله ليبين معناه أن يبين وقيل معناه يريد إنزال هذه الآيات من أجل أن يبين لكم ديتكم ويوضح لكم شرعكم ومصالح أموركم وقيل يبين لكم ما يقربكم منه وقيل يبين أن الصبر على نكاح الإماء خير لكم وَيَهْدِيَكُمْ أي ويرشدكم سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي شرائع من قبلكم في تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنها كانت محرمة على من قبلكم وقيل معناه يرشدكم إلى ما لكم فيه مصلحة كما بينه لمن كان قبلكم، وقيل معناه ويهديكم إلى الملة الحنيفية وهي ملة إبراهيم عليه السلام ويَتُوبَ عَلَيْكُمْ يعني ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم ويرجع بكم عن المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته، وقيل لما بين لنا أمر الشرائع والمصالح وأرشدنا إلى طاعته فربما وقع منا تقصير وتفريط فيما أمر به وبينه فلا جرم أنه تعالى قال ويتوب عليكم وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعني بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم حَكِيمٌ يعني فيما دبر من أمورهم.
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ قال ابن عباس معناه يريد أن يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى. وقيل معناه يدلكم على ما يكون سببا لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما سلف من ذنوبكم وقيل معناه إن وقع منكم تقصير في دينه فيتوب عليكم ويغفر لكم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ قيل هم اليهود والنصارى وقيل هم اليهود خاصة لأنهم يقولون إن نكاح بنت الأخت من الأب حلال. وقيل هم المجوس لأنهم يستحلون نكاح الأخوات وبنات الإخوة فلما حرمهن اللّه قالوا إنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة والخالة والعمة عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت هذه الآية. وقيل هم الزناة يريدون أن تكونوا مثلهم أَنْ تَمِيلُوا يعني عن الحق وقصد السبيل بالمعصية مَيْلًا عَظِيماً يعني بإتيانكم ما حرم اللّه عليكم يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يعني ليسهل عليكم