لباب التأويل، ج ١، ص : ٤٠٠
على أن فرض الصلاة والزكاة كان قبل فرض الجهاد فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أي فرض عليهم جهاد المشركين وأمروا بالخروج إلى بدر إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يعني إذا جماعة من الذين سألوا أن يفرض عليهم الجهاد يَخْشَوْنَ النَّاسَ يعني يخافون مشركي مكة كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أو بمعنى الواو يعني وأشد خشية وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ يعني لم فرضت علينا الجهاد لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني هلّا تركتنا ولم تفرض علينا القتال حتى نموت بآجالنا والقائلون لهذا القول هم المنافقون لأن هذا القول لا يليق بالمؤمنين وقيل قاله بعض المؤمنين وإنما قالوا ذلك خوفا وجنبا لا اعتقادا ثم إنهم تابوا من هذا القول قُلْ أي قل لهم يا محمد مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ يعني أن منفعتها والاستمتاع بالدنيا قليل لأنه فان زائل وَالْآخِرَةُ يعني وثواب الآخرة خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى يعني اتقى الشرك ومعصية الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي ولا تنقصون من أجوركم قدر فتيل (م) عن المستورد بن شداد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه وأشار يعني بالسبابة في اليم فلينظر بم ترجع».
قوله عز وجل : أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فرد اللّه عليهم بهذه الآية وقيل نزلت في الذين قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال فرد اللّه عليهم بقوله تعالى : أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ يعني ينزل بكم الموت فبيّن تعالى أنه لا خلاص لهم من الموت وإذا كان لا بد لهم من الموت كان القتل في القتال في سبيل اللّه وجهاد أعدائه أفضل من الموت على الفراش لأن الجهاد موت تحصل به سعادة الآخرة ثم بيّن تعالى أنه لا بد لهم من الموت وأنه لا ينجي منه شيء بقوله : وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ البروج في كلام العرب الحصون والقلاع والمشيدة المرفوعة المطولة وقيل هي المطلية بالشيد وهو الجص إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نزلت في المنافقين واليهود وذلك أن المدينة كانت ذات خير وأرزاق ونعم عند مقدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلما ظهر نفاق المنافقين وعناد اليهود أمسك اللّه عنهم بعض الإمساك فقال المنافقون واليهود ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه.
فقال اللّه تعالى وإن تصبهم يعني المنافقين واليهود حسنة أي خصب في الثمار ورخص في السعر يقولوا هذه من عند اللّه يعني من قبل اللّه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي جدب في الثمار وغلاء في السعر يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ يعني من شؤم محمد وأصحابه وقيل المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أحد ومعنى من عندك أنت الذي حملتنا عليه يا محمد فعلى هذا القول يكون هذا إخبارا عن المنافقين خاصة قُلْ أي قل لهم يا محمد كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني الحسنة والسيئة والخصب والجدب والغنيمة والهزيمة والظفر والقتل فأما الحسنة فإنعام من اللّه وأما السيئة فابتلاء منه فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ أي فما شأن هؤلاء القوم المنافقين واليهود الذين قالوا ما قالوا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يعني لا يفقهون معاني القرآن وأن الأشياء كلها من اللّه عز وجل خيرها وشرها. قوله تعالى :
[سورة النساء (٤) : آية ٧٩]
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩)
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ يعني من خير ونعمة فَمِنَ اللَّهِ يعني من فضل اللّه عليك يتفضل به إحسانا منه إليك وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ يعني من شدة ومكروه ومشقة وأذى فَمِنْ نَفْسِكَ يعني فمن قبل نفسك وبذنب اكتسبته نفسك استوجبت ذلك به وفي المخاطب بهذا الكلام قولان : أحدهما أنه عام وتقديره ما أصابك أيها الإنسان والثاني أنه خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد به من غيره من الأمة والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بريء لأن اللّه عز وجل قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد عصمه من حين البعثة فهو معصوم فيما يستقبل حتى يموت ويدل على أن المراد بهذا الخطاب غيره قوله عز وجل : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ خاطبه وحده ثم جمع الكل بقوله إذا طلقتم النساء