لباب التأويل، ج ١، ص : ٤٥٠
نجوما متفرقة بل إنزاله متفرقا أولى. وذلك أن النفوس قبل بعثة الرسل وإنزال الكتب عليهم لم تكن تعرف شيئا من العبادات ولم تألفها فإذا نزل الكتاب جملة واحدة وفيه جميع التكاليف ربما حصل في بعض نفوس العباد نفور من تلك التكاليف وتثقل عليهم كما أخبر اللّه عن قوم موسى بقوله تعالى : وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ فلم يقبلوا أحكام التوراة إلّا بعد شدة فلهذا السبب كان إنزال القرآن نجوما متفرقة أولى.
وقوله تعالى : لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يعني بعد إرسال الرسل وإنزال الكتاب والمعنى لئلا يحتج الناس على اللّه في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا وما أنزلت علينا كتابا ففيه دليل على أنه لو لم يبعث الرسل لكان للناس عليه حجة في ترك التوحيد والطاعة وفيه دليل على أن اللّه لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل كما قال تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة اللّه تعالى لا تثبت إلّا بالسمع لأن قوله :«لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل» يدل على أن قبل بعثة الرسل تكون لهم الحجة في ترك الطاعات والعبادات. فإن قلت كيف يكون للناس على اللّه حجة قبل الرسل والخلق محجوبون بما نصب من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى معرفته ووحدانيته كما قيل :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
قلت الرسل منبهون من رقاد الغفلة والجهالة وباعثون الخلق إلى النظر في تلك الدلائل التي تدل على وحدانيته سبحانه وتعالى ومبينون لها وهم وسائط بين اللّه تعالى وخلقه ومبينون أحكام اللّه تعالى التي افترضها على عباده ومبلغون رسالته إليهم (ق) عن المغيرة بن شعبة قال : قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال :«أ تعجبون من غيرة سعد واللّه لأنا أغير منه واللّه أغير مني ومن أجل غيرة اللّه حرم اللّه الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من اللّه من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحب إليه المدحة من اللّه، ومن أجل ذلك وعد الجنة» لفظ البخاري وفي لفظ مسلم ولا شخص أحب إليه العذر من اللّه ومن أجل ذلك بعث اللّه المرسلين مبشرين ومنذرين. وقوله تعالى :
وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً يعني في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله حَكِيماً يعني في إرساله الرسل قوله تعالى :
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٦ الى ١٧٠]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ قال ابن عباس دخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جماعة من اليهود فقال لهم :
«إني واللّه أعلم أنكم لتعلمن أني رسول اللّه» فقالوا ما نعلم ذلك فأنزل اللّه هذه الآية وفي رواية ابن عباس أن رؤساء مكة أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : يا محمد إنا سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونك فأنزل اللّه عز وجل لكن اللّه يشهد بما أنزل إليك يعني إن جحدك هؤلاء اليهود يا محمد وكفروا بما أوحينا إليك وقالوا : ما أنزل اللّه على بشر من شيء فقد كذبوا فيما ادعوا فإن اللّه يشهد لك بالنبوة ويشهد بما أنزل إليك من كتابه ووحيه. والمعنى أن اليهود وإن شهدوا أن القرآن لم ينزل عليك يا محمد لكن اللّه يشهد بأنه أنزل


الصفحة التالية
Icon