لباب التأويل، ج ١، ص : ٤٥٤
الثاني، والوجه الثاني أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم فكان داخلا في جملة التنكيل بهم فكأنه قال ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فيعذبهم بالحسرة والغم إذا رأوا أجور المطيعين العاملين للّه تعالى. قوله عز وجل :
يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب للكافة قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وما جاء به من البينات من ربه عز وجل وإنما سماه برهانا لما معه من المعجزات الباهرات التي تشهد بصدقه ولأن للبرهان دليل على إقامة الحق وإيصال الباطل والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان كذلك ولأنه تعالى جعله حجة قاطعة قطع به عذر جميع الخلائق وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً يعني القرآن وإنما سماه نورا لأن به تتبين الأحكام كما تتبين الأشياء بالنور بعد الظلام ولأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب فسماه نورا لهذا المعنى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ يعني صدقوا بوحدانية اللّه وبما أرسل من رسول وأنزل من كتاب وَاعْتَصَمُوا بِهِ يعني باللّه في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن زيغ الشيطان، وقيل في معنى واعتصموا به أي وتمسكوا بالنور وهو القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ يعني فسيدخلهم في رحمته التي ينجيهم بها من أليم عذابه قال ابن عباس الرحمة الجنة وَفَضْلٍ يعني ما يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً يعني ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به عليهم ويسددهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته ويرشدهم لدينه الذي ارتضاه لعباده وهو دين الإسلام. قوله تعالى :
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٦]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ نزلت في جابر بن عبد اللّه الأنصاري (ق) عن جابر بن عبد اللّه قال مرضت فأتاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكر يعوداني ماشيين فأغمي عليّ فتوضأ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثم صب علي من وضوئه فأفقت فإذا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت يا رسول اللّه كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد عليّ شيئا حتى نزلت آية الميراث : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وفي رواية فقلت يا رسول اللّه إنما يرثني كلالة فنزلت آية الميراث قال شعبة فقلت لمحمد بن المنكدر يستفتونك : قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ قال هكذا نزلت وفي رواية للترمذي وكان لي تسع أخوات حتى نزلت آية الميراث : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ولأبي داود قال اشتكيت وعندي سبع أخوات فدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنفخ في وجهي فأفقت فقلت يا رسول اللّه ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال أحسن قلت بالشطر؟ قال أحسن ثم خرج وتركني فقال يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا وإن اللّه قد أنزل فبين الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين قال فكان جابر يقول أنزلت هذه الآية في : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وروى الطبري عن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة فسألوا عنها نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه هذه الآية وروى عن ابن سيرين قال نزلت : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في مسير له وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حذيفة وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة واللّه لأنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني أن أحدثك فيها ما
لم أحدثك يومئذ فقال عمر لم أرد هذا رحمك اللّه. وأما التفسير فقوله تعالى :
يَسْتَفْتُونَكَ يعني يسألونك ويستخبرونك عن معنى الكلالة يا محمد قل : اللّه يفتيكم في الكلالة يعني أن اللّه هو يخبركم عما سألتم عنه من أمر الكلالة. وقد تقدم في أول السورة الكلام على معنى الكلالة من حيث الاشتقاق وغيره وأن اسم الكلالة يقع على الوارث وعلى الموروث فإن وقع على الوارث فهم من سوى الوالد والولد وإن وقع على الموروث فهو من مات ولا يرثه أحد الأبوين ولا أحد الأولاد.


الصفحة التالية
Icon