لباب التأويل، ج ١، ص : ٥٣
فما زالوا يستوصفون البقرة حتى وصفت لهم تلك البقرة بعينها مكافأة بذلك الفتى على بره بأمه فضلا من اللّه تعالى ورحمة فذلك قوله تعالى :
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٨ الى ٧١]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي ما سنها قالَ يعني موسى إِنَّهُ يَقُولُ يعني اللّه عز وجل :
إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ أي لا كبيرة ولا صغيرة والفارض المسنة التي لم تلد، والبكر الفتية التي لم تلد عَوانٌ أي نصف بَيْنَ ذلِكَ أي بين السنين فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ أي من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها قال ابن عباس شديد الصفرة وقيل : لونها صاف وقيل الصفراء السوداء والأول أصح لأنه يقال أصفر فاقع وأسود حالك تَسُرُّ النَّاظِرِينَ أي يعجبهم حسنها وصفاء لونها قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي سائمة أو عاملة إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا أي التبس واشتبه أمرها علينا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أي إلى وصفها قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«و ايم اللّه لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الدهر» قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ أي ليست مذللة بالعمل تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تقلبها للزراعة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أي ليست بسنانية والسانية هي التي تستسقي الماء من البئر لسقي الأرض مُسَلَّمَةٌ أي بريئة من العيوب لا شِيَةَ فِيها أي لا لون فيها غير لونها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي بالبيان التام الذي لا إشكال فيه فطلبوها فلم يجدوا بقرة بكمال وصفها، إلا بقرة ذلك الفتى فاشتروها منه بملء مسكها ذهبا فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ أي وما قاربوا أن يفعلوا ما أمروا به، قيل لغلاء ثمنها وقيل : لخوف الفضيحة وقيل : لعزة وجودها بهذه الأوصاف جميعا. قوله عز وجل :
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٢ الى ٧٤]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً خوطبت الجماعة بذلك لوجود القتل فيهم فَادَّارَأْتُمْ فِيها قال ابن عباس أي اختلفتم واختصمتم من الدرء وهو الدفع لأن المتخاصمين يدفع بعضهم بعضا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أي مظهر ما كنتم من أمر القتيل لا محالة ولا يتركه مكتوما فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
يعني القتيل بِبَعْضِها
أي ببعض البقرة قال ابن عباس ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف، وهو أصل الأذن وقيل : ضربوه بلسانها وقيل : بعجب الذنب وقيل :
بفخذها اليمين والأقرب أنهم كانوا مخيرين في ذلك البعض وإنهم إذا ضربوه بأي جزء منها أجزأ وحصل المقصود وإنه ليس في القرآن ما يدل على ذلك البعض ما هو. وذلك يقتضي التخيير وفي الآية إضمار تقديره فضربوه فحيي وقام بإذن اللّه تعالى، وأوداجه تشخب دما وقال قتلني فلان يعني ابن عمه ثم سقط ميتا مكانه.
فحرم قاتله الميراث وفي الخبر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة كَذلِكَ
أي كما أحيا اللّه عاميل صاحب البقرة