لباب التأويل، ج ١، ص : ٥٩
تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فقالوا : إنا أمرنا أن نفديهم فقالوا : كيف تقاتلونهم؟ فقالوا : إنا نستحي أن تذل حلفاؤنا فعيرهم اللّه تعالى فقال : ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وفي الآية تقديم وتأخير تقديره وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ وإن يأتوكم أسارى تفدوهم فكان اللّه تعالى أخذ عليهم أربعة عهود ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهر مع أعدائهم وفك أسراهم فأعرضوا عن الكل إلا الفداء قال اللّه عز وجل : أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ معناه إن وجدتموهم في يد غيركم فديتموهم وأنتم تقتلونهم بأيديكم فكان إيمانهم الفداء وكفرهم قتل بعضهم بعضا فذمهم على مناقضة أفعالهم لا على الفداء لأنهم أتوا ببعض ما وجب عليهم وتركوا البعض فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ يعني يا معشر اليهود إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي عذاب وهوان فكان خزي بني قريظة القتل والسبي وخزي بني النضير الإجلاء والنفي من منازلهم إلى أريحاء وأذرعات من أرض الشام وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ يعني عذاب النار وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه وعيد وتهديد عظيم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٦ الى ٨٨]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا أي استبدلوا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ لأن الجمع بين لذات الدنيا والآخرة غير ممكن فمن اشتغل بتحصيل لذات الدنيا فاتته لذات الآخرة فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي فلا يهون عليهم وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي ولا يمنعون من عذاب اللّه تعالى. قوله عز وجل : وَلَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة جملة واحدة وَقَفَّيْنا أي وأتبعنا من التقفية وهو أن يقفو أثر الآخر مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ يعني رسولا بعد رسول وكانت الرسل بعد موسى إلى زمن عيسى عليهم السلام متواترة يظهر بعضهم في أثر بعض، والشريعة واحدة : قيل إن الرسل بعد موسى يوشع بن نون وأشمويل وداود وسليمان وأرمياء وحزقيل وإلياس ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم، وكانوا يحكمون بشريعة موسى إلى أن بعث اللّه تعالى عيسى عليه السلام فجاءهم بشريعة جديدة، وغير بعض أحكام التوراة فذلك قوله تعالى : وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي الدلالات الواضحات وهي المعجزات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وقيل هي الإنجيل. واسم عيسى بالسريانية أيشرع ومريم بمعنى الخادم وقيل هو اسم علم لها كزيد من الرجال وَأَيَّدْناهُ أي وقويناه بِرُوحِ الْقُدُسِ قيل :
أراد بالروح الذي نفخ فيه والقدس هو اللّه تعالى وأضاف روح عيسى إليه تشريفا وتكريما وتخصيصا له كما تقول عبد اللّه وأمة اللّه وبيت اللّه وناقة اللّه وقال ابن عباس هو اسم اللّه الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى وقيل هو الإنجيل لأنه حياة القلوب سماه روحا كما سمى القرآن روحا وقيل هو جبريل ووصف بالقدس وهو الطهارة لأنه لم يفترق ذنبا قط وقيل القدس هو اللّه تعالى والروح جبريل كما تقول عبد اللّه، سمي جبريل روحا للطافته لأنه روحاني خلق من النور وقيل سمى روحا لمكانه من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب وحمل روح القدس هنا على جبريل أولى لأنه تعالى قال وأيدناه أي قويناه بجبريل وذلك أنه أمر أن يكون مع عيسى ويسير معه حيث سار فلم يفارقه حتى صعد به إلى السماء فلما سمعت اليهود بذكر عيسى قالوا يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما يقص علينا من أخبار الأنبياء فعلت فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا قال اللّه تعالى : أَفَكُلَّما جاءَكُمْ يعني يا معشر اليهود رَسُولٌ بِما لا تَهْوى تقبل أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ أي تعظمتم عن الإيمان به