لباب التأويل، ج ١، ص : ٧٧
إبراهيم خليل الرحمن أول الناس ضيف الضيف وأول الناس قص شاربه وأول الناس رأى الشيب. قال : رب ما هذا قال الرب تبارك وتعالى وقارا يا إبراهيم قال يا رب زدني وقارا» أخرجه مالك في الموطأ وقيل : في الكلمات إنها مناسك الحج. وقيل : ابتلاه اللّه بسبعة أشياء بالكوكب والقمر والشمس فأحسن النظر فيهن وبالنار والهجرة وذبح ولده والختان، فصبر عليها وقيل : إن اللّه اختبر إبراهيم بكلمات أوحاها إليه وأمره أن يعمل بهن فأتمهن أي أداهن حق التأدية، وقام بموجبهن حق القيام وعمل بهن من غير تفريط وتوان ولم ينتقص منهن شيئا. واختلفوا هل كان هذا الابتلاء قبل النبوة أو بعدها فقيل : كان قبل النبوة بدليل قوله في سياق الآية : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً والسبب يتقدم على المسبب. وقيل : بل كان هذا الابتلاء بعد النبوة لأن التكليف لا يعلم إلا من جهة الوحي الإلهي وذلك بعد النبوة. والصواب أنه إن فسر الابتلاء بالكوكب والقمر والشمس كان ذلك قبل النبوة، وإن فسر بما وجب عليه من شرائع الدين كان ذلك بعد النبوة. وقوله تعالى : قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً أي يقتدى بك في الخير ويأتمون بسنّتك وهديك، والإمام هو الذي يؤتم به قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي قال إبراهيم :
واجعل من ذريتي وأولادي أئمة يقتدى بهم قالَ اللّه لا يَنالُ أي لا يصيب عَهْدِي أي نبوتي. وقيل الإمامة الظَّالِمِينَ يعني من ذريتك والمعنى لا ينال ما عاهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالما من ذريتك وولدك. قوله عز وجل :
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٥]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ يعني البيت الحرام، وهو الكعبة ويدخل فيه الحرم فإن اللّه تعالى وصفه بكونه آمنا وهذه صفة جميع الحرم مَثابَةً لِلنَّاسِ أي مرجعا من ثاب يثوب إذا رجع، والمعنى يثوبون إليه من كل جانب يحجونه وَأَمْناً أي موضعا ذا أمن يؤمنون فيه من أذى المشركين فإنهم كانوا لا يتعرضون لأهل مكة.
ويقولون : هم أهل اللّه. وقال ابن عباس : معاذا وملجأ (ق) عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكة :
«إن هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة اللّه تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه فقال العباس : يا رسول اللّه إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال : إلا الإذخر». معنى الحديث : أنه لا يحل لأحد أن ينصب القتال والحرب في الحرم وإنما أحل ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكة فقط ولا يحل لأحد بعده. قوله : لا يعضد شوكه أي لا يقطع شوك الحرم وأراد به ما لا يؤذي منه أما ما يؤذي منه كالعوسج فلا بأس بقطعه. قوله : ولا ينفر صيده أي لا يتعرض له بالاصطياد ولا يهاج. قوله : ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها أي ينشدها. والنشد رفع الصوت بالتعريف. واللقطة في جميع الأرض لا تحل إلا لمن يعرفها حولا فإن جاء صاحبها أخذها. وإلا انتفع بها الملتقط بشرط الضمان. وحكم مكة في اللقطة أن يعرفها على الدوام بخلاف غيرها من البلاد فإنه محدود بسنة. قوله : ولا يختلى خلاه. الخلي مقصور الرطب من النبات الذي يرعى وقيل : هو اليابس من الحشيش وخلاه قطعه.
وقول : لقينهم القين الحداد وقوله تعالى : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى قيل : الحرم كله مقام إبراهيم، وقيل : أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج مثل عرفة والمزدلفة والرمي وسائر المشاهد، والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت، وقيل : كان أثر أصابع رجلي إبراهيم عليه السلام فيه فاندرست بكثرة المسح بالأيدي وقيل : إنما أمروا بالصلاة عنده ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله (ق) عن أنس بن مالك قال قال عمر :«وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى