لباب التأويل، ج ١، ص : ٩٨
أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أي أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم وَأَنَا التَّوَّابُ أي المتجاوز عن عبادي الرجاع بقلوبهم المنصرفة عني إلي الرَّحِيمُ يعني بهم بعد إقبالهم علي. قوله عز وجل : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قيل : هذا اللعن يكون يوم القيامة يؤتى بالكافر فيوقف فيلعنه اللّه ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون. فإن قلت : الكافر لا يلعن نفسه ولا يلعنه أهل دينه وملته فما معنى قوله والناس أجمعين. قلت فيه أوجه : أحدها : أنه أراد بالناس من يعتد بلعنه وهم المؤمنون. الثاني : أن الكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة. الثالث : أنهم يلعنون الظالمين والكفار من الظالمين فيكون قد لعن نفسه خالِدِينَ فِيها أي مقيمين في اللعنة وقيل : في النار وإنما أضمرت لعظم شأنها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون ولا يؤجلون. وقيل : لا ينظرون ليعتذروا. وقيل : لا ينظر إليهم نظر رحمة.
(فصل فيما يتعلق بهذه الآية من الحكم) قال العلماء : لا يجوز لعن كافر معين لأن حاله عند الوفاة لا يعلم فلعله يموت على الإسلام وقد شرط اللّه في هذه الآية إطلاق اللعنة على من مات على الكفر ويجوز لعن الكفار يدل عليه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم :«لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها» وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معين من الكفار، بدليل جواز قتاله وأما العصاة من المؤمنين فلا يجوز لعنة أحد منهم على التعيين وأما على الإطلاق فيجوز لما روي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال :«لعن اللّه السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده» ولعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومؤكله ولعن من غير منار الأرض، ومن انتسب لغير أبيه وكل هذه في الصحيح. قوله عز وجل : وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ سبب نزول هذه الآية، أن كفار قريش قالوا : يا محمد صف لنا ربك وانسبه، فأنزل اللّه هذه الآية وسورة الإخلاص ومعنى الوحدة الانفراد، وحقيقة الواحد هو الشيء الذي لا يتبعض ولا ينقسم والواحد في صفة اللّه أنه واحد لا نظير له وليس كمثله شيء وقيل واحد في ألوهيته وربوبيته ليس له شريك لأن المشركين أشركوا معه الآلهة فكذبهم اللّه تعالى بقوله : وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعني لا شريك له في ألوهيته ولا نظير له في الربوبية والتوحيد، هو نفي الشريك والقسيم والشبيه فاللّه تعالى واحد في أفعاله لا شريك له يشاركه في مصنوعاته وواحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا يشبهه شيء من خلقه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير للوحدانية بنفي غيره من الألوهية وإثباتها له سبحانه وتعالى : الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ يعني أنه المولى لجميع النعم وأصولها وفروعها فلا شيء سواه بهذه الصفة لأن كل ما سواه إما نعمة وأما منعم عليه. وهو المنعم على خلقه الرحيم بهم.
عن أسماء بنت يزيد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول :«اسم اللّه الأعظم في هاتين الآيتين : وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، وفاتحة آل عمران : الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح. وقيل : لما نزلت هذه الآية. قال المشركون : إن محمدا يقول :«إلهكم إله واحد فليأتنا بآية إن كان صادقا» فأنزل اللّه تعالى :
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعلمه كيفية الاستدلال على وحدانية الصانع، وردهم إلى التفكر في آياته والنظر في عجائب مصنوعاته وإتقان أفعاله ففي ذلك دليل على وحدانيته إذ لو كان في الوجود صانعان لهذه الأفعال، لاستحال اتفاقهما على أمر واحد ولامتنع في أفعالهما التساوي في صفة الكمال فثبت بذاك أن خالق هذا


الصفحة التالية
Icon