لباب التأويل، ج ٢، ص : ١١٤
أقول لكم عندي خزائن اللّه جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي والمعنى ليس عندي خزائن رزق اللّه فأعطيكم منها ما تريدون لأنهم كانوا يقولون للنبي صلى اللّه عليه وسلم إن كنت رسولا من اللّه فاطلب منه أن يوسع علينا عيشنا ويغني فقرنا فأخبر أن ذلك بيد اللّه لا بيدي وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يعني فأخبركم بما مضى وما سيقع في المستقبل، وذلك أنهم قالوا له : أخبرنا بمصالحنا ومضارنا في المستقبل حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار، فأجابهم بقوله : ولا أعلم الغيب فأخبركم بما تريدون وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وذلك أنهم قالوا : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج النساء؟ فأجابهم بقوله : ولا أقول لكم إني ملك لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه البشر ويشاهد ما لا يشاهدون فلست أقول شيئا من ذلك ولا أدّعيه فتنكرون قولي وتجحدون أمري. وإنما نفى عن نفسه الشريفة هذه الأشياء تواضعا للّه تعالى واعترافا له بالعبودية وأن لا يقترحوا عليه الآيات العظام إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ يعني ما أخبركم إلا بوحي من اللّه أنزلهعليّ ومعنى الآية أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أعلمهم أنه لا يملك خزائن اللّه التي منها يرزق ويعطي وأنه لا يعلم الغيب فيخبر بما كان وما سيكون وأنه ليس بملك حتى يطلع على ما لا يطلع عليه البشر إنما يتبع ما يوحى إليه من ربه عز وجل فما أخبر عنه من غيب بوحي اللّه إليه وظاهر الآية يدل على أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ما كان يجتهد في شيء من الأحكام بل جميع أوامره ونواهيه إنما كانت بوحي من اللّه إليه قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ؟
يعني : المؤمن والكافر والضال والمهتدي والعالم والجاهل أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ يعني أنهما لا يستويان.
قوله عز وجل : وَأَنْذِرْ بِهِ يعني وخوف بالقرآن والإنذار إعلام مع تخويف الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ.
قال ابن عباس : يريد المؤمنين لأنهم يخافون يوم القيامة وما فيه من شدة الأهوال. وقيل : معنى يخافون يعلمون والمراد بهم كل معترف بالبعث من مسلم وكتابي وإنما خص الذين يخافون الحشر بالذكر دون غيرهم وإن كان إنذاره صلى اللّه عليه وسلم لجميع الخلائق لأن الحجة عليهم أوكد من غيرهم لاعترافهم بصحة المعاد والحشر. وقيل :
المراد بهم الكفار لأنهم لا يعتقدون صحة ولذلك قال : يخافون أن يحشروا إلى ربهم، وقيل : المراد بالإنذار جميع الخلائق فيدخل فيه كل مؤمن معترف بالحشر وكل كافر منكر له لأنه ليس أحد إلا وهو يخاف الحشر سواء اعتقد وقوعه أو كان يشكّ فيه ولأن دعوة النبي صلى اللّه عليه وسلم وإنذاره لجميع الخلق لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ يعني من دون اللّه وَلِيٌّ أي قريب ينفعهم وَلا شَفِيعٌ يعني يشفع لهم ثم إن فسرنا الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أن المراد بهم الكفار فلا إشكال فيه لقوله تعالى : ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ وإن فسرنا الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أن المراد بهم المؤمنون ففيه إشكال، لأنه قد ثبت بصحيح النقل شفاعة نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم للمذنبين من أمته وكذلك تشفع الملائكة والأنبياء والمؤمنون بعضهم لبعض والجواب عن هذا الإشكال أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن اللّه لقوله عز وجل : مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وإذا كانت الشفاعة بإذن اللّه صح قوله : لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ يعني حتى يأذن اللّه لهم في الشفاعة فإذا أذن فيها كان للمؤمنين ولي وشفيع لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني ما نهيتم عنه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٢]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)
قوله تعالى : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قال سلمان وخباب بن الأرت :
فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وهما من المؤلفة قلوبهم فوجدوا