لباب التأويل، ج ٢، ص : ١٢٧
هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه. ويقال : إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء. وقال السدي : رأى نمرود في منامه كأن كوكبا قد طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعا شديدا، فدعا السحرة والكهان وسألهم عن ذلك، فقالوا : هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة يكون هلاكك وزوال ملكك وهلاك أهل دينك على يديه، فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك السنة في ناحيته وأمر بعزل النساء عن الرجال وجعل على كل عشرة، رجلا يحفظهم فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لأنهم كانوا لا يجامعون في المحيض فإذا طهرت من الحيض حالوا بينهما. قالوا : فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها فحملت بإبراهيم. وقال محمد بن إسحاق : بعث نمرود إلى كل رجل امرأة حبلى بقربه فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية صغيرة لم يعرف الحبل في بطنها. وقال السدي : فخرج نمرود بالرجال إلى العسكر وعزلهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود فمكثت بذلك ما شاء اللّه ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحدا من قومه إلا آزر فبعث إليه فأحضره عنده وقال له :
إن لي إليك حاجة أحب أن أوصيك بها ولم أبعثك فيها إلا لثقتي بك فأقسمت عليك ألا تدنو من أهلك. فقال آزر : أنا أشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجة الملك، ثم قال : لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما دخل على أم إبراهيم ونظر إليها لم يتمالك حتى واقعها فحملت من ساعتها بإبراهيم.
قال ابن عباس : لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود : إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملت به أمه الليلة، فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها المخاض، خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها. قالوا : فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء ثم رجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت وأن الولد في موضع كذا، فانطلق إليه أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سربا في النهر فواراه فيه وسد بابه بصخرة مخافة السباع. وكانت أمه تختلف إليه فترضعه. وقال محمد بن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم وأصلحت من شأنه ما يصلح بالمولود ثم سدت عليها باب المغارة ثم رجعت إلى بيتها. وكانت تختلف إليه لتنظر ما فعل فتجده حيا وهو يمص إبهامه.
قال أبو روق : قالت أم إبراهيم لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء، ومن إصبع لبنا، ومن إصبع سمنا، ومن إصبع عسلا، ومن إصبع تمرا. وقال محمد بن إسحاق : كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل فقالت : ولدت غلاما فما صدقها وسكت عنها. وكان إبراهيم يشب في اليوم كالشهر وفي الشهر كالسنة فلم يمكث في المغارة إلا خمسة عشر شهرا حتى قال : أخرجيني فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض. وقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وساقني لربي الذي ما لي إله غيره ونظر في السماء فرأى كوكبا قال : هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال : لا أحب الآفلين.
فلما رأى القمر بازغا، قال : هذا ربي وأتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب ثم طلعت الشمس قال هكذا إلى آخره ثم رجعت به إلى أبيه آزر قد استقامت وجهته وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك. فلما رجعت به أمه، أخبرته أنه ابنه وأخبرته بما صنعت به فسر بذلك وفرح فرحا شديدا. وقيل : إنه مكث في السرب سبع سنين. وقيل : ثلاث عشرة سنة وقيل سبع عشرة سنة. قالوا، فلما شب إبراهيم وهو في السرب قال لأمه :
من ربي؟ قالت : أنا. قال : فمن ربك؟ قالت : أبوك. قال : فمن رب أبي؟ قالت : اسكت، ثم رجعت إلى زوجها فقالت أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك. ثم أخبرته بما قال فأتاه أبوه آزر فقال إبراهيم : يا أبتاه من ربي؟ قال : أمك. قال : فمن رب أمي؟ قال : أنا. قال : فمن ربك؟ قال : نمرود. قال :
فمن رب نمرود؟ فلطمه لطمة وقال : اسكت.
فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكبا قال : هذا ربي ويقال إنه قال