لباب التأويل، ج ٢، ص : ١٣٤
إنما يليق بحال اليهود وأجاب عنه بأن كفار قريش كانوا مختلطين باليهود وقد سمعوا منهم أن موسى جاءهم بالتوراة وبالمعجزات الباهرات وإنما أنكر كفار قريش نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم فيمكن إلزامهم بقوله قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وأجاب عن كون سياق الآية لأي ليق إلا بحال اليهود بأن كفار قريش واليهود لما كانوا مشتركين في إنكار نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم فلا يبعد أن بعض الآية يكون خطابا لكفار قريش وبعضها خطابا لليهود.
والقول الثاني : في سبب نزول هذه الآية وهو قول جمهور المفسرين أنها نزلت في اليهود وهذا على قول من يقول : إن هذه الآية نزلت بالمدينة وأنها من الآيات المدنيات التي في السور المكية. قال ابن عباس : نزلت سورة الأنعام بمكة إلا ست آيات منها قوله : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ فإنها نزلت بالمدينة ثم اختلف القائلون بهذا القول في اسم من نزلت هذه الآية فيه فقال سعيد بن جبير : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : أنشدك اللّه الذي أنزل التوراة على موسى أما تجدون في التوراة أن اللّه يبغض الحبر السمين وكان حبرا سمينا فغضب. وقال : واللّه ما أنزل اللّه على بشر من شيء فقال أصحابه الذين معه ويحك ولا على موسى فقال واللّه ما أنزل اللّه على بشر من شيء فأنزل اللّه وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نورا وهدى للناس الآية. قال البغوي :
وفي القصة أن مالك بن الصيف لما سمعت اليهود منه تلك المقالة عتبوا عليه وقالوا : أليس اللّه أنزل التوراة على موسى فلم قلت ما أنزل اللّه على بشر من شي ء؟ فقال مالك بن الصيف : أغضبني محمد فقلت ذلك. فقالوا له :
وأنت إذا غضبت تقول على اللّه غير الحق؟ فنزعوه عن الحبرية وجعلوا مكانه كعب الأشرف. وقال السدي : لما نزلت هذه الآية في فنحاص بن عازوراء اليهودي وهو القائل هذه المقالة. وقال ابن عباس : قالت اليهود يا محمد أنزل اللّه عليك كتابا؟ قال : نعم فقالوا : واللّه ما أنزل اللّه من السماء كتابا فأنزل اللّه : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى الآية وقال محمد بن كعب القرظي : جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو محتب؟ فقالوا يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا يحملونها من عند اللّه فأنزل اللّه يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ الآية التي في سورة النساء فلما حدثهم بأعمالهم الخبيثة جثا رجل منهم وقال : ما أنزل اللّه عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا فأنزل اللّه : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذ قالوا ما أنزل اللّه على بشر من شيء وأورد الرازي على هذا القول إشكالا أيضا وهو أنه قال : إن اليهود مقرون بإنزال التوراة على موسى فكيف يقولون ما أنزل اللّه على بشر من شيء مع اعترافهم بإنزال التوراة ولم يجب عن هذا الإشكال بشيء وأجيب عنه بأن مراد اليهود إنكار إنزال القرآن على محمد صلى اللّه عليه وسلم فقط ولهذا ألزموا بما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى فقال تعالى : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى أي : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين أنكروا إنزال القرآن عليك بقولهم ما أنزل اللّه على بشر من شيء من أنزل التوراة على موسى وفي هذا الإلزام توبيخ اليهود بسوء جهلهم وإقدامهم على إنكار الحق الذي لا ينكر نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ يعني التوراة ضياء
من ظلمة الضلالة وبيانا يفرق بين الحق والباطل من دينهم وذلك قبل أن تبدل وتغير تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ يكتبونه في قراطيس مقطعة تُبْدُونَها يعني القراطيس المكتوبة وَتُخْفُونَ كَثِيراً يعني ويخفون كثيرا مما كتبوه في القراطيس وهو ما عندهم من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته في التوراة ومما أخفوه أيضا آية الرجم وكانت مكتوبة عندهم في التوراة وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ أكثر المفسرين على أن هذا خطاب لليهود ومعناه : أنكم علمتم على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من قبل. قال الحسن : جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به. وقال مجاهد : هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علمهم على لسان نبيه صلى اللّه عليه وسلم قُلِ اللَّهُ هذا راجع إلى قوله : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى، فإن أجابوك يا محمد وإلا فقل أنت