لباب التأويل، ج ٢، ص : ١٥٠
قال اللّه تعالى : لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لأنها مصونة عن التحريف والتغيير والتبديل باقية إلى يوم القيامة وفي قوله : لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ دليل على أن السعيد لا ينقلب شقيا ولا الشقي ينقلب سعيدا، فالسعيد من سعد في الأزل والشقي من شقي في الأزل وأورد على هذا أن الكافر يكون شقيا بكفره فيسلم فينقلب سعيدا بإسلامه وأجيب عنه بأن الاعتبار بالخاتمة فمن ختم له بالسعادة كان قد كتب سعيدا في الأزل ومن ختم له بالشقاوة كان شقيا في الأزل واللّه أعلم.
وقوله تعالى : وَهُوَ السَّمِيعُ يعني لما يقول العباد الْعَلِيمُ بأحوالهم قوله عز وجل : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال المفسرون إن المشركين جادلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين في أكل الميتة وذلك أنهم قالوا للمسلمين كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلوا ما قتل ربكم؟ فقال اللّه تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : وإن تطع أكثر من في الأرض في أكل الميتة، وكان الكفار يومئذ أكثر أهل الأرض يضلوك عن سبيل اللّه، يعني يضلوك عن دين اللّه الذي شرعه لك وبعثك به وقيل معناه لا تطعهم في معتقداتهم الباطلة فإنك إن تطعهم يضلوك عن سبيل اللّه يعني يضلوك عن طريق الحق ومنهج الصدق ثم أخبر عن حال الكفار وما هم عليه فقال تعالى : إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني أن هؤلاء الكفار الذين يجادلونك ما يتبعون في دينهم الذي هم عليه إلا الظن وليسوا على بصيرة وحق في دينهم وليسوا بقاطعين أنهم على حق لأنهم اتبعوا أهواءهم وتركوا التماس الصواب والحق واقتصروا على اتباع الظن والجهل وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يعني يكذبون وأصل الخرص الحزر والتخمين، ومنه خرص النخلة إذا حزر كمية ثمرتها على الظن من غير يقين ويسمى الكذب خرصا لما يدخله من الظنون الكاذبة وقيل : إن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له خرص لأن قائله لم يقله عن علم ويقين إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ يقول اللّه لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم يا محمد إن ربك هو أعلم منك ومن جميع خلقه أيّ الناس يضل عن سبيله وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يعني وهو أعلم أيضا بمن كان على هدى واستقامة وسداد ولا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه فأخبر تعالى أنه أعلم بالفريقين الضال والمهتدي وأنه يجازي كلّا بما يستحق.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٨ الى ١٢٠]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)
قوله تعالى : فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ هذا جواب لقول المشركين حيث قالوا للمسلمين أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل ربكم؟ فقال اللّه تعالى للمسلمين فكلوا أنتم مما ذكر اسم اللّه عليه من الذبائح : إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وقيل كانوا يحرمون أصنافا من النعم ويحلون الميتة فقيل : أحلوا ما أحل اللّه وحرموا ما حرم اللّه، فعلى هذا القول تكون الآية خطابا للمشركين.
وعلى القول الأول تكون الآية خطابا للمسلمين وهو الأصح لقوله في آخر الآية : إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يعني وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا وما يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه وهذا تأكيد في إباحة ما ذبح على اسم اللّه دون غيره : وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ يعني وقد بين لكم الحلال من الحرام فيما تطعمون. وقال جمهور المفسرين : المراد بقوله وقد فصل لكم ما حرم عليكم المحرمات المذكورة في قوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وأورد الإمام فخر الدين الرازي هاهنا إشكالا فقال : في سورة الأنعام مكية وسورة المائدة من آخر ما أنزل اللّه تعالى بالمدينة، وقوله : وقد فصل يجب أن يكون ذلك المفصل متقدما على هذا المحل والمدني متأخر على