لباب التأويل، ج ٢، ص : ١٦
كثير جدا ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم جمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «لا يقبل اللّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» أخرجاه في الصحيحين وقيل في معنى الآية : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم وقيل : هو أمر ندب ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارة وإن كان على طهر ويدل عليه ما روي عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :«من توضأ على طهر كتب اللّه له عشر حسنات» أخرجه الترمذي.
وقيل : هذا إعلام من اللّه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ويدل عليه ما روي عن ابن عباس «أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج يوما من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا ألا نأتيك بوضوء فقال إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» أخرجه مسلم. والقول الأول هو المختار في معنى الآية وفروض الوضوء المذكور في هذه الآية أربعة : الأول غسل الوجه وهو قوله تعالى : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ واستدل الشافعي على وجوب النية عند غسل الوجه بهذه الآية وحجته أن الوضوء مأمور به وكل مأمور به يجب أن يكون منويا ولما روي في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم «قال إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى». والوضوء من الأعمال فيجب أن يكون منويا وإنما قلنا : إن الوضوء مأمور به وأنه من أعمال الدين لقوله تعالى : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. والإخلاص، عبارة عن النية الخالصة ومتى كانت النية الخالصة، معتبرة كان أصل النية في جميع الأعمال التي يتقرب بها إلى اللّه تعالى معتبرا. واستدل أبو حنيفة لعدم وجوب النية في الوضوء بهذه الآية قال : إن النية ليست شرطا لصحة الوضوء، لأن اللّه تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية ولم يوجب النية فيها، فإيجاب النية زيادة على النص والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز.
وأجيب عنه : بأنا إنما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن وهو قوله تعالى : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وأما حد الوجه، فمن منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا لأنه مأخوذ من المواجهة فيجب غسل جميع الوجه في الوضوء ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والعذارين والشارب والعنفقة وإن كانت كثة. وأما اللحية فإن كانت كثة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل ما تحتها ويجب غسل ما تحت اللحية الخفيفة وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما نزل من اللحية عن الذقن؟ فيه قولان : أحدهما وبه قال أبو حنيفة، لا يجب لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في المسح فكذلك حكم الشعر النازل عن حد الوجه لا يجب غسله.
والقول الثاني يجب إمرار الماء على ظاهره لأن الوجه مأخوذ من المواجهة فتدخل جميع اللحية في حكم الوجه.
الفرض الثاني قوله تعالى : وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ
يعني : واغسلوا أيديكم إلى المرافق والمرافق بالكسر هو من الإنسان أعلى الذراع وأسفل العضد. وذهب جمهور العلماء إلى وجوب إدخال المرفقين في الغسل ونقل عن مالك والشافعي وزفر وأبي بكر بن داود الظاهري، أنه لا يجب إدخال المرفقين في الغسل واختاره ابن جرير الطبري. ونقل عن مالك : وقد سئل عن قول اللّه عز وجل : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فقال :
الذي آمر به أن يبلغ المرفقين في الغسل لا يجاوزهما وحجة أصحاب هذا القول أن كلمة إلى لانتهاء الغاية وما يجعل غاية للحكم يكون خارجا عنه كما في قوله تعالى : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ولأن الحد لا يدخل في المحدود فوجب أن لا يجب غسل المرفقين في الوضوء وحجة الجمهور أن كلمة إلى هنا بمعنى مع ومنه قوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي مع أموالكم ويعضده من السنة ما صح من حديث أبي هريرة أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل اليمنى حتى أشرع في العضد ثم يده السرى حتى أشرع في العضد ثم قال : هكذا رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يتوضأ. والجواب عن الحجة المتقدمة إن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه كما في هذه الآية لأن المرفق من جنس اليد وإذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه كما في قوله تعالى : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ لأن النهار من غير جنس الليل فلا يدخل فيه. الفرض الثالث : قوله تعالى :