لباب التأويل، ج ٢، ص : ١٨٣
عليك اليوم فيخرج اللّه له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال فإنه لا ظلم عليك اليوم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم اللّه شي ء» أخرجه الترمذي وأحمد بن حنبل. وقال ابن عباس : يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان فعلى قول ابن عباس : أن الأعمال تتصور صورا وتوضع تلك الصور في الميزان ويخلق اللّه في تلك الصور ثقلا وخفة.
ونقل البغوي عن بعضهم أنها توزن الأشخاص واستدل لذلك بما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه تعالى جناح بعوضة» أخرجاه في الصحيحين وهذا الحديث ليس فيه دليل على ما ذكر من وزن الأشخاص في الميزان لأن المراد بقوله لا يزن عند اللّه جناح بعوضة مقداره وحرمته لا وزن جسده ولحمه والصحيح قول من قال إن صحائف الأعمال توزن أو نفس الأعمال تتجسد وتوزن واللّه أعلم بحقيقة ذلك.
وقوله تعالى : فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع ميزان، وأورد على هذا أنه ميزان واحد فما وجه الجمع وأجيب عنه بأن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد، وقيل : إنه ينصب لكل عبد ميزان، وقيل : إنما جمعه لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يتم الوزن إلا باجتماع ذلك كله وقيل هو جمع موزون يعني من رجحت أعماله بالحسنة الموزونة التي لها وزن وقدر فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني : هم الناجون غدا والفائزون بثواب اللّه وجزائه وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ يعني موازين أعماله وهم الكفار بدليل قوله تعالى : فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني غبنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب اللّه وكرامته بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ يعني سبب ذلك الخسران أنهم كانوا بحجج اللّه وأدلة توحيده يجحدون ولا يقرّون بها. روي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه أنه حين حضره الموت قال في وصيته لعمر بن الخطاب : إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا، وإنما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا. قوله عز وجل :
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠ الى ١٢]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني ولقد مكناكم أيها الناس في الأرض، والمراد من التمكين التمليك وقيل : معناه جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا أو قدرناكم على التصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة يعني به جمع وجوه المنافع التي تحصل بها الأرزاق وتعيشون بها أيام حياتكم وهي على قسمين :
أحدهما : ما أنعم اللّه تعالى به على عباده من الزرع والثمار وأنواع المآكل والمشارب.
والثاني : ما يتحصل من المكاسب والأرباح في أنواع التجارات والصنائع وكلا مقسمين في الحقيقة إنما يحصل بفضل اللّه وإنعامه وإقداره وتمكينه لعباده من ذلك فثبت بذلك أن جميع معايش العالم إنعام من اللّه تعالى على عباده وكثرة الإنعام توجب الطاعة للمنعم بها والشكر له عليها ثم بين تعالى أنه مع هذا الإفضال على عباده وإنعامه عليهم لا يقومون بشكره كما ينبغي فقال تعالى : قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ يعني : على ما صنعت إليكم وأنعمت به عليكم، وفيه دليل على أنهم قد يشكرون لأن الإنسان قد يذكر نعم اللّه فيشكره عليها فلا يخلو في


الصفحة التالية
Icon