لباب التأويل، ج ٢، ص : ١٨٥
فإن قلت : لم سأله عن المانع له من السجود وهو أعلم به؟
قلت : إنما سأله للتوبيخ والتقريع له ولإظهار معاندته وكفره وافتخاره بأصله وحسده لآدم عليه الصلاة والسلام ولذلك لم يتب اللّه عليه قالَ يعني قال إبليس مجيبا للّه تعالى عما سأله عنه أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ.
فإن قلت قوله أنا خير منه ليس بجواب عما سأله عنه في قوله تعالى : ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ فلم يجب بما منعه من السجود فإنه كان ينبغي له أن يقول منعني كذا وكذا ولكنه قال أنا خير منه.
قلت : استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم وفيها دليل على موضع الجواب وهو قوله خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ والنار خير من الطين وأنور وإنما قال أنا خير منه لما رأى أنه أشد منه قوة وأفضل منه أصلا وذلك لفضل الجنس الذي خلق منه وهو النار على الطين الذي خلق منه آدم عليه الصلاة والسلام فجهل عدو اللّه وجه الحق وأخطأ طريق الصواب لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب، وهذا الذي حمل الخبيث إبليس مع الشقاء الذي سبق له من اللّه تعالى في الكتاب السابق على الاستكبار على السجود لآدم عليه الصلاة والسلام والاستخفاف بأمر ربه فأورده ذلك العطب والهلاك ومن المعلوم أن في جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياة والتثبت وهذا كان الداعي لآدم عليه الصلاة والسلام مع السعادة السابقة التي سبقت له من اللّه تعالى في الكتاب السابق إلى التوبة من خطيئته ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة، ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان : أول من قاس إبليس فأخطأ وقال ابن سيرين أيضا :
ما عبدت الشمس والقمر لا بالمقاييس وأصل هذا القياس الذي قاسه إبليس لعنه اللّه تعالى لما رأى أن النار أفضل من الطين وأقوى فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يدر أن الفضل لمن جعله اللّه فاضلا وأن الأفضلية والخيرية لا تحصل بسبب فضيلة الأصل والجوهر وأيضا الفضيلة إنما تحصل بسبب الطاعة وقبول الأمر، فالمؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي فاللّه تعالى خص صفيه آدم عليه الصلاة والسلام بأشياء لم يخص بها غيره وهو أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلّمه أسماء كل شيء وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية إلى غير ذلك مما خص اللّه تعالى به آدم عليه الصلاة والسلام للعناية التي سبقت له في القدم وأورث إبليس كبره اللعنة والطرد للشقاوة التي سبقت له في القدم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣ الى ١٧]
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)
وقوله تعالى : قالَ فَاهْبِطْ مِنْها يعني قال اللّه تعالى لإبليس لعنه اللّه اهبط من الجنة. وقيل : من السماء إلى الأرض. والهبوط الإنزال والانحدار من فوق على سيل القهر والهوان والاستخفاف فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها يعني فليس لك أن تستكبر في الجنة عن أمري وطاعتي لأنه لا ينبغي أن يسكن في الجنة أو في السماء متكبر مخالف لأمر اللّه عز وجل فأما غير الجنة والسماء فقد يسكنها المستكبر عن طاعة اللّه تعالى وهم الكفار الساكنون في الأرض فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ يعني : إنك من الأذلاء المهانين والصّغار الذل والمهانة. قال الزجاج : استكبر عدو اللّه إبليس فابتلاه اللّه تعالى بالصغار والذلة. وقيل : كان له ملك الأرض فأخرجه اللّه تعالى منها إلى جزائر البحر الأخضر وعرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفا كهيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار رثة يروع فيها حتى يخرج منها قالَ يعني : قال إبليس عند ذلك أَنْظِرْنِي يعني أخّرني وأمهلني فلا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعني من قبورهم وهي النفخة الآخرة عند قيام الساعة وهذا من جهالة الخبيث إبليس لعنه اللّه لأنه