لباب التأويل، ج ٢، ص : ١٩٢
قوله تعالى : يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما إنما أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأن نزع لباسهما كان بسبب وسوسة الشيطان وغروره فأسند إليه واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما، فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وبقيت الأظفار تذكرة وزينة ومنافع، وقال وهب بن منبه رحمه اللّه تعالى : كان لباس آدم وحواء نورا، وقال مجاهد : كان لباسهما التقى.
وفي رواية عنه التقوى وقيل إن لباسهما من ثياب الجنة وهذا القول أقرب لأن إطلاق اللباس ينصرف إليه ولأن النزع لا يكون إلا بعد اللبس لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما يعني : ليرى آدم عورة حواء وترى حواء عورة آدم وكان قبل ذلك لا يرى بعضهم سوءة بعض إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ يعني أن إبليس يراكم يا بني آدم هو وقبيله إنما أعاد الكناية في قوله هو ليحسن العطف والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضهم بعضا، وقال الليث : كل جيل من جن أو إنس قبيل ومعنى يراكم هو وقبيله أي من هو من نسله، وحكى أبو عبيد عن أبي يزيد القبيل : ثلاثة فصاعدا من قوم شتى والجمع قبل والقبيلة بنو أب واحد. وقال الطبري : قبيله يعني صنفه وجيله الذي هو منهم وهو واحد يجمع على قبل وهم الجن. وقال مجاهد : الجن والشياطين وقال ابن يزيد : قبيله نسله. وقال ابن عباس رضي عنهما : هو ولده وقوله مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يعني أنتم يا بني آدم، قال العلماء رحمهم اللّه : إن اللّه تعالى خلق في عيون الجن إدراكا يرون بذلك الإدراك الإنس ولم يخلق في عيون الإنس هذا الإدراك فلم يروا الجن. وقالت المعتزلة الوجه في أن الإنس لا يرون الجن رقة أجسام الجن ولطافتها والوجه في رؤية الجن للإنس كثافة أجسام الإنس والوجه في رؤية الجن بعضهم بعضا أن اللّه تعالى قوى شعاع أبصار الجن وزاد فيها حتى يرى بعضهم بعضا ولو جعل في أبصارنا هذه القوة لرأيناهم ولكن لم يجعلها. وحكى الواحدي وابن الجوزي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وجعلت صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه اللّه تعالى» كما قال تعالى :«الذي يوسوس في صدور الناس» فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم، وقال مجاهد : قال إبليس جعل لنا أربعة نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى.
وقال مالك بن دينار رحمه اللّه تعالى : إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه اللّه تعالى إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ يعني أعوانا وقرباء لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ قال الزجاج يعني سلطانهم عليهم يزيدون في غيهم.
قوله عز وجل : وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قال ابن عباس رضي اللّه عنهما ومجاهد : هي طوافهم بالبيت عراة الرجال والنساء. وقال عطاء : هي الشرك والفاحشة اسم لكل قبيح فيدخل فيه جميع المعاصي والكبائر فيمكن حملها على الإطلاق وإن كان السبب مخصوصا بما ورد من طوافهم عراة ولما كانت هذه الأفعال التي كان أهل الجاهلية يفعلونها ويعتقدون أنها طاعات وهي في نفسها فواحش ذمهم اللّه تعالى عليها ونهاهم عنها فاحتجوا عن هذه الأفعال بما أخبر اللّه عنهم وهو قوله تعالى : قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فذكروا لأنفسهم عذرين أحدهما محض التقليد وهو قولهم وجدنا على هذا الفعل آباءنا وهذا التقليد باطل لأنه لا أصل له، والعذر الثاني قولهم واللّه أمرنا بها وهذا العذر أيضا باطل وقد أجاب اللّه تعالى عنه بقوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ والمعنى أن هذه الأفعال التي كان أهل الجاهلية يفعلونها هي في أنفسها قبيحة منكرة فكيف يأمر اللّه تعالى بها واللّه لا يأمر بالفحشاء بل يأمر بما فيه مصالح العباد ثم قال تعالى ردا عليهم أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يعني انكم سمعتم كلام اللّه تعالى ابتداء من غير واسطة ولا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين اللّه تعالى وبين عباده في تبليغ أوامره ونواهيه وأحكامه لأنكم تنكرون نبوّة الأنبياء فكيف تقولون على اللّه ما لا تعلمون.


الصفحة التالية
Icon