لباب التأويل، ج ٢، ص : ٢٠٨
ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه فأخرج الرجل. وفي رواية يحيى بن يحيى قال : كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد اللّه الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟
فأطرق مالك برأسه حتى علته الرحضاء ثم قال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا فأمر به أن يخرج. روى البيهقي بسنده عن ابن عيينة قال : ما وصف اللّه تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه. قال البيهقي : والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة وعلى هذه الطريقة يدل مذهب الشافعي رضي اللّه تعالى عنه وإليه ذهب أحمد بن حنبل والحسن بن الفضل البجلي ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي. قال البغوي أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة اللّه بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى اللّه عز وجل وذكر حديث مالك بن أنس مع الرجل الذي سأله عن الاستواء وقد تقدم. وروى عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد اللّه بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة اقرءوها كما جاءت بلا كيف. وقال الإمام فخر الدين الرازي رحمه اللّه بعد ذكره الدلائل العقلية والسمعية : أنه لا يمكن حمل قوله تعالى ثم استوى على العرش على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان الأول القطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى اللّه تعالى وهو الذي قررنا في تفسير قوله : وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه والمذهب الثاني : أنا نخوض في تأويله على التفصيل وفيه قولان ملخصان :
الأول، ما ذكره القفال فقال العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملك ثم جعل ثل العرش كناية عن نقض الملك يقال ثل عرشه انتقض ملكه وإذا استقام له ملكه واطرد أمره ونفذ حكمه قالوا استوى على عرشه واستوى على سرير ملكه هذا ما قاله القفال والذي قاله القفال حق وصواب ثم قال اللّه تعالى دل على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم واستقر في قلوبهم تنبيها على عظمة اللّه جل جلاله وكمال قدرته وذلك مشروط بنفي التشبيه والمراد منه نفاذ القدرة وجريان المشيئة. قال ويدل على صحة هذا قوله في سورة يونس ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ فقوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله ثم استوى على العرش وأورد على هذا القول أن اللّه تعالى لم يكن مستويا على الملك قبل خلق السموات والأرض واللّه تعالى منزه عن ذلك وأجيب عنه بأن اللّه تعالى كان قبل خلق السموات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال شبع زيد إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض والقول الثاني : أن يكون استوى بمعنى استولى وهذا مذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين واحتجوا عليه بقول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وعلى هذا القول إنما خص العرش بالإخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات ورد هذا القول بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه واللّه تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها، فأي تخصيص للعرش هنا دون غيره من المخلوقات.
ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن اللّه تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة وغيرهما من أفعاله ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ. وثم للتراخي والتراخي إنما يكون في الأفعال وأفعال اللّه تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك عن بعض أصحابنا أنه قال : استوى بمعنى علا من العلو قال ولا يريد بذلك علوا


الصفحة التالية
Icon