لباب التأويل، ج ٢، ص : ٢١٤
فنفع اللّه تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبته كلأ فذلك مثل من فقه في دين اللّه عز وجل ونفعه ما بعثني اللّه تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى اللّه تعالى الذي أرسلت به» أخرجاه في الصحيحين.
وقوله تعالى : كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ يعني كما ضربنا هذا المثل كذلك نبين الآيات الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية وحجة بعد حجة لقوم يشكرون اللّه تعالى على إنعامه عليهم بالهداية وحيث جنّبهم سبيل الضلالة وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا لسماع القرآن.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢)
قوله عز وجل : لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ اعلم أن اللّه تبارك وتعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة دلائل آثار قدرته وغرائب خلقه وصنعته الدالة على توحيده وربوبيته وأقام الدلالة القاطعة على صحة البعث بعد الموت أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما جرى لهم مع أممهم وفي ذلك تسلية للنبي صلى اللّه عليه وسلم لأنه لم يكن إعراض قومه فقط عن قبول الحق بل قد أعرض عنه سائر الأمم الخالية والقرون الماضية وفيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت إلى الخسار والهلاك في الدنيا وفي الآخرة إلى العذاب العظيم فمن كذب بمحمد صلى اللّه عليه وسلم من قومه كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبله من الأمم المكذبة وفي ذكر هذه القصص دليل على صحة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم لأنه كان أمّيا لا يقرأ ولا يكتب ولم يلق أحدا من علماء زمانه فلما أتى بمثل هذه القصص والأخبار عن القرون الماضية والأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد علم بذلك أنه إنما أتى به من عند اللّه عز وجل وإنه أوحى إليه ذلك فكان دليلا واضحا وبرهانا قاطعا على صحة نبوته صلى اللّه عليه وسلم وقوله تعالى : لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ لقد أرسلنا نوحا جواب قسم محذوف تقديره واللّه لقد أرسلنا نوحا وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه الصلاة والسلام ويعني أرسلنا بعثنا وهو أول نبي بعثه اللّه تعالى بعد إدريس وكان نوح عليه الصلاة والسلام نجارا.
وقيل : معنى الإرسال أن اللّه تعالى حمله رسالة ليؤديها إلى قومه فعلى هذا التقدير فالرسالة تكون متضمنة للبعث أيضا ويكون البعث كالتابع لا أنه أصل، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : بعثه اللّه وهو ابن أربعين سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة وقيل هو ابن مائة سنة، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه واختلفوا في سبب نوحه فقيل : لدعوته على قومه بالهلاك وقيل : لمراجعته ربه في شأن ابنه كنان وقيل : لأنه مر بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح فأوحى اللّه تعالى إليه أعبتني أم عبت الكلب؟ فَقالَ يعني نوحا لقومه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعني اعبدوا اللّه تعالى فإنه هو الذي يستحق العبادة لا غيره فإنه ليس لكم إله معبود سواه فإنه هو الذي يستوجب أن يعبد إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني إن لم تقبلوا ما آمركم به من عبادة اللّه تعالى واتباع أمره وطاعته واليوم الذي خافه عليهم وهو إما يوم الطوفان وإهلاكهم فيه أو يوم القيامة وإنما قال أخاف على الشك وإن كان على يقين من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعلم وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة قالَ الْمَلَأُ وهم الجماعة الأشراف مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ يعني يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني في خطأ وزوال عن الحق بين قالَ يعني نوحا يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ يعني ما بي ما تظنون من الضلال وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني : هو أرسلني إليكم لأنذركم وأخوفكم إن لم تؤمنوا به وهو قوله