لباب التأويل، ج ٢، ص : ٢١٨
معظم مكة معترف بحرمتها ومكانها من اللّه عز وجل وكان البيت معروفا مكانه من الحرم وكان سكان مكة يومئذ العماليق وإنما سموا العماليق لأن أباهم كان عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيد العماليق يومئذ رجلا يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري وهو رجل من عاد وكانت عاد أخوال معاوية سيد العماليق فلما قحطت عاد وقلّ عنهم المطر قالوا : جهزوا منكم وفدا إلى مكة ليستسقوا لكم فإنكم قد هلكتم فبعثوا قيل بن عنز ونعيم بن هزال من هزيل وعقيل بن صنديد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر سيد العماليق ولقمان بن عاد فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه جماعة من قومه فبلغ عدد وفد عاد سبعين رجلا فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان وهما قينتان لمعاوية بن بكر فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم عنده وقد بعثهم قومهم يتغوثون لهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي نازلون عليّ واللّه وما أدري كيف أصنع فإني أستحي أن آمرهم بالخروج لما بعثوا إليه فيظنوا أنه ضيق مني بمكانهم عندي وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا قال وشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا قل شعرا نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك أن يحركهم فقال معاوية :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل اللّه يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهمو بخير فقد أمست نساؤهم أيامى
وإن الوحش تأتيهم جهارا ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركمو وليلكمو تماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما
فلما قال معاوية هذا الشعر وغنتهم به الجرادتان وعرف القوم ما غنتا به قال بعضهم لبعض : يا قوم إنما بعثكم قومكم ليتغوثوا بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد بن عفير : إنكم واللّه لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه عند ذلك وقال في ذلك :
عصت عاد رسولهم فأمسوا عطاشا ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد فأبصرنا الهدى وجلا العماء
وأن إله هود هو إلهي على اللّه التوكل والرجاء
زاد في رواية :
لقد حكم الإله وليس جورا وحكم اللّه إن غلب الهواء
على عاد وعاد شر قوم فقد هلكوا وليس لهم بقاء
وإني لن أفارق دين هود طوال الدهر أو يأتي الفناء
فقال جلهمة بن الخيبري مجيبا لمرثد بن سعد حين فرغ من مقالته وعرف أنه اتبع دين هود وآمن به :