لباب التأويل، ج ٢، ص : ٢٤٥
عرضا كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أن كلامه ليس بصوت ولا حرف ومذهب أهل السنة وجمهور العلماء من السلف والخلف إن اللّه تعالى متكلم بكلام قديم وسكتوا عن الخوض في تأويله وحقيقته. قال أهل التفسير والأخبار : لما جاء موسى عليه الصلاة والسلام لميقات ربه تطهر وطهر ثيابه وصام ثم أتى طور سيناء وفي القصة أن اللّه تعالى أنزل ظلة تغشت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية وطرد عنه الشيطان وهو أم الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء فرأى الملائكة قياما في الهواء ورأى العرش بارزا وأدنى ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح وكلمه اللّه تبارك وتعالى وناجاه وأسمعه كلامه وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلم اللّه تعالى به موسى فاستحلى كلام ربه عز وجل واشتاق إلى رؤيته قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال الزجاج : فيه اختصار تقديره أرني نفسك أنظر إليك وقال ابن عباس معناه أعطني أنظر إليك وإنما سأل موسى عليه الصلاة والسلام الرؤية مع علمه بأن اللّه تعالى لا يرى في الدنيا لما هاج به من الشوق وفاض عليه من أنواع الجلال حتى استغرق في بحر المحبة فعند ذلك سأل الرؤية وقيل إنما سأل الرؤية ظنا منه بأنه تعالى يرى في الدنيا فتعالى اللّه عن ذلك قالَ لَنْ تَرانِي يعني ليس لبشر أن يراني في الدنيا ولا يطيق النظر إليّ في الدنيا من نظر إليّ في الدنيا مات فقال موسى عليه الصلاة والسلام : إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولأن أنظر إليك ثم أموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك. وقال السدي : لما كلم اللّه تعالى موسى عليه الصلاة والسلام غاص عدو اللّه إبليس الخبيث في الأرض حتى خرج من بين قدمي موسى فوسوس إليه أن مكلمك شيطان فعند ذلك سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه الرؤية فقال «رب أرني أنظر إليك» قال اللّه تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام «لن تراني».
( (فصل)) وقد تمسك من نفي الرؤية من أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية وهو قوله تعالى : لَنْ تَرانِي قالوا لن تكون للتأبيد والدوام ولا حجة لهم في ذلك ولا دليل ولا يشهد لهم في ذلك كتاب ولا سنة وما قالوه في أن لن تكون للتأبيد خطأ بين ودعوى على أهل اللغة إذ ليس يشهد لما قالوه نص عن أهل أهل اللغة والعربية ولم يقل به أحد منهم ويدل على صحة ذلك قوله تعالى في صفة اليهود «و لن يتمنوه أبدا» مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة يدل عليه قوله تعالى : وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ وقوله يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ فإن قالوا إن لن معناها تأكيد النفي كلا التي تنفي المستقبل قلنا إن صح هذا التأويل فيكون معنى لن تراني محمولا على الدنيا أي لن تراني في الدنيا جمعا بين دلائل الكتاب والسنة فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن المؤمنين يرون ربهم عز وجل يوم القيمة في الدار الآخرة وأيضا فإن موسى عليه الصلاة والسلام كان عارفا باللّه تعالى وبما يجب ويجوز ويمتنع على اللّه عز وجل وفي الآية دليل على أنه سأل الرؤية فلو كانت الرؤية ممتنعة على اللّه تعالى لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام فحيث سألها علمنا أن الرؤية جائزة على اللّه تعالى وأيضا فإن اللّه عز وجل علق رؤيته على أمر جائز والمعلق على الجائز جائز فيلزم من ذلك كون الرؤية في نفسها جائزة وإنما قلنا ذلك لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل وهو قوله تعالى : وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي وهو أمر جائز الوجود في نفسه وإذا كان كذلك ثبت أن رؤيته جائزة الوجود لأن استقرار الجبل غير مستحيل عند التجلي إذا جعل اللّه تعالى له قوة على ذلك والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالا واللّه أعلم بمراده.
قال وهب ومحمد بن إسحاق : لما سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه عز وجل الرؤية أرسل اللّه الضباب والرياح والصواعق والرعد والبرق والظلمة حتى أحاطت بالجبل الذي عليه موسى عليه الصلاة والسلام أربع