لباب التأويل، ج ٢، ص : ٢٩٢
ولما ذكر اللّه سبحانه وتعالى هذه الصفات الثلاث أتبعها بصفتين من أعمال الجوارح فقال سبحانه وتعالى :
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يعني يقيمون الصلاة المفروضة بحدودها وأركانها في أوقاتها وينفقون أموالهم فيما أمرهم اللّه به من الإنفاق فيه ويدخل فيه النفقة في الزكاة والحج والجهاد وغير ذلك من الإنفاق في أنواع البر والقربات ثم قال تعالى : أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا يعني يقينا لا شك في إيمانهم قال ابن عباس برءوا من الكفر. وقال قتادة : استحقوا الإيمان وأحقه اللّه لهم وفيه دليل على أنه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمنا حقا لأن اللّه سبحانه وتعالى إنما وصف بذلك أقواما مخصوصين على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه وهذا يتعلق بمسألة أصولية وهي أن العلماء اتفقوا على أنه يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن واختلفوا في أنه هل يجوز له أن يقول أنا مؤمن حقا أم لا؟ فقال أصحاب الإمام أبي حنيفة : الأولى أن يقول أنا مؤمن حقا ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء اللّه واستدلوا على صحة هذا القول بوجهين :
الأول : أن المتحرك لا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء اللّه وكذا القول في القائم والقاعد، فكذلك هذه المسألة يجب فيها أن يكون المؤمن مؤمنا حقا، ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء اللّه.
الوجه الثاني : أنه سبحانه وتعالى قال أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فقد حكم اللّه لهم بكونهم مؤمنين حقا وفي قوله أنا مؤمن إن شاء اللّه تشكيك فيما قطع اللّه لهم به وذلك لا يجوز وقال أصحاب الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه الأولى أن يقول الرجل أنا مؤمن إن شاء اللّه واحتجوا لصحة هذا القول بوجوه : الأول أن الإيمان عندهم عبارة عن الاعتقاد والإقرار والعمل وكون الإنسان آتيا بالأعمال الصالحة المقبولة أمر مشكوك فيه والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في الماهية فيجب أن يقول أنا مؤمن إن شاء اللّه وإن كان اعتقاده وإقراره صحيحا وعند أصحاب أبي حنيفة أن الإيمان عبارة عن الاعتقاد فيخرج العمل من مسمى الإيمان فلم يلزم حصول الشك.
الوجه الثاني : أن قولنا أنا مؤمن إن شاء اللّه ليس هو على سبيل الشك ولكن إذا قال الرجل أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب فإذا قال : إن شاء اللّه زال عنه ذلك العجب وحصل له الانكسار.
روي أن أبا حنيفة قال لقتادة : لم استثنيت في إيمانك؟ فقال قتادة : اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله :
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ فقال أبو حنيفة هلا اقتديت به في قوله أو لم تؤمن؟ قال : بلى فانقطع قتادة قال بعضهم كان لقتادة أن يقول إن إبراهيم قال بعد قوله بلى ولكن ليطمئن قلبي فطلب. مزيد الطمأنينة.
الوجه الثالث : أن اللّه سبحانه وتعالى ذكر في أول الآية إنما المؤمنون ولفظة إنما تفيد الحصر يعني إنما المؤمنون الذين هم كذا وكذا وذكر بعد ذلك أوصافا خمسة وهي الخوف من اللّه والإخلاص للّه والتوكل على اللّه والإتيان بالصلاة كما أمر اللّه سبحانه وتعالى وإيتاء الزكاة كذلك ثم بعد ذلك قال : أولئك هم المؤمنون حقا يعني أن من أتى بجميع هذه الأوصاف كان مؤمنا حقا ولا يمكن لأحد أن يقطع بحصول هذه الصفات له فكان الأولى له أن يقول أنا مؤمن إن شاء اللّه. وقال ابن أبي نجيح : سأل رجل الحسن فقال أمؤمن أنت؟ فقال الحسن : إن كنت سألتني عن الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن وإن كنت سألتني عن قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم الآية فلا أدري أنا منهم أم لا. وقال علقمة : كنا في سفر فلقينا قوم فقلنا من القوم؟ فقالوا نحن المؤمنون حقا فلم ندر ما نجيبهم حتى لقينا عبد اللّه بن