لباب التأويل، ج ٢، ص : ٣٠٩
فنزلت وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم الآية فلما أخرجوه نزلت وما لهم أن لا يعذبهم اللّه وهم يصدونهم عن المسجد الحرام.
قوله عز وجل : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ اختلفوا في معنى هذه الآية فقال محمد بن إسحاق :
هذه الآية متصلة بما قبلها وهي حكاية عن المشركين وذلك أنهم قالوا إن اللّه لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أمة ونبيها معها فقال اللّه عز وجل لنبيه صلى اللّه عليه وسلم يذكره جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ثم قال تعالى ردا عليهم : وما لهم ألا يعذبهم اللّه وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون وهم يصدون عن المسجد الحرام. وقال آخرون : هذا كلام مستأنف يقول اللّه عز وجل إخبارا عن نفسه تعالى وتقدس وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم، واختلفوا في معناه فقال الضحاك وجماعة : تأويلها : وما كان اللّه ليعذبهم وأنت يا محمد مقيم فيهم بين أظهرهم. قالوا : نزلت هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو مقيم بمكة ثم لما خرج منها بقي بقية من المسلمين يستغفرون، فأنزل اللّه عز وجل وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون ثم لما خرج أولئك المسلمون من بين أظهر الكافرين أذن اللّه في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم. وقال ابن عباس : لم يعذب اللّه قرية حتى يخرج نبيها منها والذين آمنوا معه ويلحق بحيث أمر فقال اللّه وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم مقيم وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون يعني المسلمين فلما خرجوا قال اللّه لهم ومالهم ألا يعذبهم اللّه، وقال بعضهم : هذا الاستغفار راجع إلى المشركين وذلك أنهم كانوا يقولون بعد فراغهم من الطواف غفرانك غفرانك. وقال زيد بن رومان : قالت قريش اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم فقال اللّه تعالى وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون.
وقال قتادة والسدي : معناه وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون أي لو استغفروا ولكنهم لم يكونوا مستغفرين ولو أقروا بالذنب واستغفروا اللّه لكانوا مؤمنين. وقيل : هذا دعاء لهم إلى الإسلام والاستغفار بهذه الكلمة، كالرجل يقول لعبده لا أعاقبك. وأنت تطيعني أي أطعني حتى لا أعاقبك وقال مجاهد وعكرمة : وهم يستغفرون أي يسلمون. يعني : لو أسلموا لما عذبوا. وقال ابن عباس : وفيهم من سبق له من اللّه العناية أنه يؤمن ويستغفر مثل أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وغيرهم. وقال مجاهد : وهم يستغفرون، أي وفي أصلابهم من يستغفر وقيل في معنى الآية : إن الكفار لما بالغوا وقالوا إن كان محمد محقا في قوله فأمطر علينا حجارة من السماء أخبر اللّه سبحانه وتعالى أن محمدا محق في قوله وأنه مع ذلك لا يمطر على أعدائه ومنكري نبوته حجارة من السماء ما دام بين أظهرهم وذلك تعظيما له صلى اللّه عليه وسلم وأورد على هذا أنه إذا كانت إقامته مانعة من نزول العذاب بهم فكيف قال في غير هذه الآية قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم فالجواب أن المراد من العذاب الأول هو عذاب الاستئصال والمراد من العذاب الثاني وهو قوله سبحانه وتعالى يعذبهم اللّه بأيديكم هو عذاب القتل والسبي والأسر وذلك دون عذاب الاستئصال.
قال أهل المعاني : دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان سلامة من العذاب عن أبي موسى الأشعري قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «إن اللّه أنزل عليّ أمانين لأمتي وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» أخرجه الترمذي.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٤]
وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤)