لباب التأويل، ج ٢، ص : ٣٤٤
النعيم أَبَداً يعني لا انقطاع له إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يعني لمن عمل بطاعته وجاهد في سبيله.
قوله سبحانه وتعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ قال مجاهد : هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة وقال ابن عباس : لما أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة فمنهم من تعلق به أهله وأولاده يقولون ننشدك اللّه أن لا تضيعنا فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة فأنزل اللّه هذه الآية. وقال مقاتل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى اللّه المؤمنين عن موالاتهم وأنزل يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء يعني بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة. قال بعضهم : حمل هذه الآية على ترك الهجرة مشكل لأن هذه السورة نزلت بعد الفتح وهي من آخر القرآن نزولا والأقرب أن يقال إن اللّه سبحانه وتعالى لما أمر المؤمنين بالتبري من المشركين قالوا كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه فذكر اللّه أن مقاطعة الرجل أهله وأقاربه في الدين واجبة فالمؤمن لا يوالي الكافر وإن كان أباه وأخاه وابنه وهو قوله تعالى : إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ يعني إن اختاروا الكفر وأقاموا عليه وتركوا الإيمان باللّه ورسوله وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يعني ومن يختار المقام معهم على الهجرة والجهاد فقد ظلم نفسه بمخالفة أمر اللّه واختيار الكفار على المؤمنين ولما نزلت هذه الآية قال الذين أسلموا : لم يهاجروا إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا فأنزل اللّه سبحانه وتعالى :
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥)
قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وقرئ على الجمع وعشيراتكم العشيرة هم الأدنون من أهل الإنسان الذين يعاشرونه دون غيرهم وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها يعني اكتسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها يعني بفراقكم لها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها يعني تستوطنوها راضين بسكناها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني أحب إليكم من الهجرة إلى اللّه ورسوله وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فبين اللّه سبحانه وتعالى أنه يجب تحمل جميع المضار في الدنيا ليبقى الدين سليما وأخبر أنه كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة اللّه وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل اللّه فَتَرَبَّصُوا أي فانتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ يعني بقضائه وهذا أمر تهديد وتخويف وقال مجاهد ومقاتل يعني بفتح مكة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعني الخارجين عن طاعته، وفي هذا دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا.
قوله عز وجل : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ النصر المعونة على الأعداء بإظهار المسلمين عليهم فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ يعني أماكن كثيرة والمراد بها غزوات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسراياه وبعوثه وكانت غزوات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ما ذكره في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم تسع عشرة غزوة زاد بريدة في حديثه قاتل في ثمان منهم ويقال إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون وقيل : ثمانون وهو قوله تعالى : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ