لباب التأويل، ج ٢، ص : ٣٥٤
أبو هريرة والضحاك ذلك عند نزول عيسى عليه السلام فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة في حديث نزول عيسى عليه السلام قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام. عن المقداد قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :«لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله اللّه كلمة الإسلام إما بعز عزيز أو بذل ذليل إما أن يعزهم فيجعلهم من أهله فيعزوا به وإما أن يذلهم فيدينون له» أخرجه البغوي بغير سند (م) عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :«لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقلت يا رسول اللّه إني كنت أظن حين أنزل اللّه تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله إن ذلك تام قال إنه سيكون ذلك ما شاء اللّه ثم يبعث ريحا طيبة تتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم» قال الشافعي : وقد أظهر اللّه دين رسوله صلى اللّه عليه وسلم على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خالفه من الأديان باطل وقال وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ودين الأميين فقهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعا وكرها وقتل أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام وأعطى بعضهم الجزية صاغرين وجرى عليهم حكمه فهذا هو ظهوره على الدين كله وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ قوله تعالى :
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ قد تقدم معنى الأحبار والرهبان وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى وفي قوله سبحانه وتعالى : إِنَّ كَثِيراً دليل على أن الأقل من الأحبار والرهبان لم يأكلوا أموال الناس بالباطل ولعلهم الذين كانوا قبل بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم وعبر عن أخذ الأموال بالأكل في قوله تعالى :
لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ لأن المقصود الأعظم من جمع المال الأكل فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصد واختلفوا في السبب الذي من أجله أكلوا أموال الناس بالباطل فقيل إنهم كانوا يأخذون الرشا من سفلتهم في تخفيف الشرائع والمسامحة في الأحكام وقيل إنهم كانوا يكتبون بأيديهم كتبا يحرفونها ويبدلونها ويقولون هذه من عند اللّه ويأخذون بها ثمنا قليلا وهي المآكل التي كانوا يصيبونها من سفلتهم على تغيير نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم وصفته في كتبه لأنهم كانوا يخافون لو آمنوا به وصدقوه لذهبت عنهم تلك المآكل وقيل إن التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان الأحبار والرهبان يذكرون في تأويلها وجوها فاسدة باطلة ويحرفون معانيها طلبا للرياسة وأخذ الأموال ومنع الناس عن الإيمان به وذلك قوله تعالى : وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني ويمنعون الناس عن الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والدخول في دين الإسلام وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أصل الكنز في اللغة جعل المال بعضه على بعض وحفظه ومال مكنوز مجموع واختلفوا في المراد بهؤلاء الذين ذمهم اللّه بسبب كنز الذهب والفضة فقيل هم أهل الكتاب. قال معاوية بن أبي سفيان : لأن اللّه سبحانه وتعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بالباطل ثم وصفهم بالبخل الشديد وهو جمع المال ومنع إخراج الحقوق الواجبة منه. وقال ابن عباس : نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين وذلك أن اللّه سبحانه وتعالى لما ذكر قبح طريقة الأحبار والرهبان في الحرص على أخذ الأموال بالباطل حذر المسلمين من ذلك وذكر وعيد من جمع المال ومنع حقوق اللّه منه. وقال أبو ذر : نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين.
ووجه هذا القول أن اللّه سبحانه وتعالى وصف أهل الكتاب بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ثم ذكر بعده وعيد من جمع المال ومنع الحقوق الواجبة فيه سواء كان من أهل الكتاب أو من المسلمين (خ)