لباب التأويل، ج ٢، ص : ٣٦٢
الأرض فأعبد ربي. فقال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار فارجع واعبد ربك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصلالرحم ويحمل الكل ويقري الضيق ويعين على نوائب الحق فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وفي رواية فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر كذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذ عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال : قد علمت الذي عاهدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر : فإني أراد إليك جوارك وأرضى بجوار اللّه والنبي صلى اللّه عليه وسلم يومئذ بمكة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم للمسلمين : إني رأيت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمر هو الخبط أربعة أشهر قال ابن شهاب : قال عروة قالت عائشة : فبينا نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر :
فداء له أبي وأمي واللّه ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستأذن، فأذن له فدخل فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأبي بكر : اخرج من عندك. فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه. قال : فإني قد أذن لي في الخروج قال أبو بكر الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعم. قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه إحدى راحلتي هاتين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : بالثمن. قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين قالت ثم لحق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد اللّه بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما صبح ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق السواحل وفي رواية طريق الساحل.
قال ابن شهاب : فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول : جاءنا رسول كفار قريش يجعلون في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو