لباب التأويل، ج ٢، ص : ٣٦٨
والأكمل لا سيما وهذه كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا يعني في اعتذارهم وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ يعني فيما يعتذرون به. قال ابن عباس : لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ حتى نزلت براءة.
قوله سبحانه وتعالى : لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي في أن يجاهدوا وإنما حسن هذا الحذف لظهوره وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ يعني الذين يتقون لمخالفته ويسارعون إلى طاعته إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ يعني في التخلف عن الجهاد معك يا محمد من غير عذر الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وهم المنافقون لقوله وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ يعني شكت قلوبهم في الإيمان وإنما أضاف الشك والارتياب إلى القلب لأنه محل المعرفة والإيمان أيضا فإذا داخله الشك كان ذلك نفاقا فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ يعني أن المنافقين متحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين وقد اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية. فقيل : إنها منسوخة بالآية التي في سورة النور وهي قوله سبحانه وتعالى إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون باللّه ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم وقيل إنها محكمات كلها ووجه الجمع بين هذه الآيات أن المؤمنين كانوا يسارعون إلى طاعة اللّه وجهاد عدوهم من غير استئذان فإذا عرض لأحدهم عذرا استأذن في التخلف فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مخيرا في الإذن لهم بقوله تعالى فأذن لمن شئت منهم وأما المنافقون فكانوا يستأذنون في التخلف من غير عذر فعيرهم اللّه تعالى بهذا الاستئذان لكونه بغير عذر.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ يعني إلى الغزو معكم لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً لتهيئوا له بإعداد آلات السفر وآلات القتال من الكراع والسلاح وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ يعني خروجهم إلى الغزو معكم فَثَبَّطَهُمْ يعني منعهم وحبسهم عن الخروج معكم والمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى كره خروج المنافقين مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فصرفهم عنه وهاهنا يتوجه سؤال وهو أن خروج المنافقين مع النبي صلى اللّه عليه وسلم إما أن يكون فيه مصلحة أو مفسدة فإن كان فيه مصلحة فلم قال :
ولكن كره اللّه انبعاثهم فثبطهم، وإن كان فيه مفسدة. فلم عاتب نبيه صلى اللّه عليه وسلم في أذنه لهم بالقعود والجواب عن السؤال أن خروجهم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان فيه مفسدة عظيمة بدليل أنه تعالى أخبر عن تلك المفسدة بقوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا، بقي فلم عاتب اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم بقوله لم أذنت لهم فنقول إنه صلى اللّه عليه وسلم أذن لهم قبل تمام الفحص وإكمال التأمل والتدبر في حالهم فلهذا السبب قال اللّه تعالى : لم أذنت لهم؟ وقيل إنما عاتبه لأجل أنه أذن لهم قبل أن يوحي إليه في أمرهم بالقعود وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ معناه أنهم لما استأذنوه في القعود.
قيل لهم : اقعدوا مع القاعدين وهم النساء والصبيان والمرضى وأهل الأعذار ثم اختلفوا في القائل من هو فقيل، قال بعضهم لبعض : اقعدوا مع القاعدين. وقيل : القائل هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإنما قال ذلك لهم على سبيل الغضب لما استأذنوه في القعود فقال لهم اقعدوا مع القاعدين فاغتنموا ذلك وقعدوا وقيل إن القائل ذلك هو اللّه سبحانه وتعالى بأن ألقى في قلوبهم القعود لما كره انبعاثهم مع المسلمين إلى الجهاد ثم بيّن سبحانه وتعالى ما في خروجهم من المفاسد فقال تعالى : لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا يعني لو خرج هؤلاء المنافقون معكم إلى الغزو ما زادوكم إلا فسادا وشرا وأصل الخبال اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون قال بعض النحاة :