لباب التأويل، ج ٢، ص : ٣٨٧
فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة لقد أنزل اللّه فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال : إن اللّه منعني أن أقبل منك صدقتك، فجعل يحثو على رأسه التراب فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني، فلما أبى أن يقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صدقته رجع إلى منزله وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأتى أبا بكر فقال : اقبل صدقتي. فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنا لا أقبلها. فقبض أبو بكر ولم يقبلها منه فلما ولي عمر أتاه فقال : اقبل صدقتي فقال : لم يقبلها منك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا أبو بكر فأنا لا أقبلها منك فلم يقبلها. ثم ولي عثمان فأتاه فلم يقبلها منه وهلك في خلافة عثمان». وأخرجه الطبري أيضا بسنده. قال بعض العلماء : إنما لم يقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صدقة ثعلبة، لأن اللّه سبحانه وتعالى منعه من قبولها منه مجازاة له على إخلافه ما وعد اللّه عليه وإهانة له على قوله : إنما هي جزية أو أخت الجزية، فلما صدر هذا القول منه ردت صدقته عليه إهانة له وليعتبر غيره فيه فلا يمتنع من بذل الصدقة عن طيب نفس بإخراجها ويرى أنها واجبة عليه وأنه يثاب على إخراجها ويعاقب على منعها.
وقال ابن عباس : إن ثعلبة أتى مجلسا من مجالس الأنصار فأشهدهم لئن آتاني اللّه من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه وتصدقت منه ووصلت القرابة فمات ابن عم له فورث منه مالا فلم يف بما عاهد اللّه عليه فأنزل اللّه فيه هذه الآية. وقال الحسن ومجاهد : نزلت في ثعلبة ومعتب بن قشير وهما من بني عمرو بن عوف خرجا على ملأ قعود فقالا لئن رزقنا اللّه من فضله لنصدقن فلما رزقهما اللّه بخلا به. وقال ابن السائب : إن حاطب بن أبي بلتعة «١» كان له مال بالشام فأبطأ عليه فجهد لذلك جهدا شديدا فحلف باللّه لئن آتاني اللّه من فضله يعني ذلك المال لأصدقن منه ولأصلن فلما آتاه ذلك المال لم يف بما عاهد اللّه عليه فنزلت هذه الآية وحاصله أن ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد اللّه لئن آتاه من فضله ليصدقن وليفعلن فيه أفعال الخير والبر والصلة فلما آتاه اللّه من فضله ما سأل لم يف بما عاهد اللّه عليه ومعنى الآية ومن المنافقين من أعطى اللّه عهدا لئن رزقنا من فضله بأن يوسع علينا في الرزق لنصدقن يعني لنتصدقن ولنخرجن من ذلك المال صدقته وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ يعني : ولنعملن في ذلك المال ما يعمله أهل الصلاح بأموالهم من صلة الأرحام والإنفاق في سبيل اللّه وجميع وجوه البر والخير وإخراج الزكاة وإيصالها إلى أهلها والصالح ضد المفسد والمفسد هو الذي يبخل بما يلزمه في حكم الشرع. وقيل : إن المراد بقوله لنصدقن، إخراج الزكاة الواجبة. وقوله : ولنكونن من الصالحين إشارة إلى كل ما يفعله أهل الصلاح على الإطلاق من جميع أعمال البر والطاعة.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٦]
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦)
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ يعني فلما رزقهم اللّه لم يفعلوا من أعمال البر شيئا وَتَوَلَّوْا يعني عما عاهدوا اللّه عليه وَهُمْ مُعْرِضُونَ يعني عن العهد.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
________
(١) قوله إن حاطب إلخ لم يذكر البغوي هذا القول وأصاب فإن حاطبا مهاجري بدري وفضل آل بدر لا يخفى ا ه.