لباب التأويل، ج ٢، ص : ٤٣٧
وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم كما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببني قريظة يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ يعني : إن وبال بغيكم راجع عليكم مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا قيل هو كلام مبتدأ، والمعنى : أن بغي بعضكم على بعض هو متاع الحياة الدنيا لا يصلح لزاد الآخرة وقيل هو كلام متصل بما قبله والمعنى يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم لا يتهيأ أن يبغي بعضكم على بعض إلا أياما قليلة وهي مدة حياتكم مع قصرها في سرعة انقضائها. والبغي : من منكرات الذنوب العظام. قال بعضهم : لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي.
وقد نظم بعضهم هذا المعنى شعرا وكان المأمون يتمثل به فقال :
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة فارجع فخير مقال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل لاندك منه أعاليه وأسفله
وقوله سبحانه وتعالى : ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ يعني يوم القيامة فَنُنَبِّئُكُمْ أي فنخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)
قوله عز وجل : إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني في فنائها وزوالها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ يعني المطر فَاخْتَلَطَ بِهِ أي بالمطر نَباتُ الْأَرْضِ قال ابن عباس : نبت بالماء من كل لون مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ يعني من الحبوب والثمار وَالْأَنْعامُ يعني ومما يأكل الأنعام من الحشيش ونحوه حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها يعني حسنها ونضارتها وبهجتها وأظهرت ألوان زهرها من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من الزهور وَازَّيَّنَتْ أي وتزينت وَظَنَّ أَهْلُها يعني أهل تلك الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها يعني على جذاذها وقطافها وحصادها، رد الكناية إلى الأرض والمراد النبات إذ كان مفهوما.
وقيل : رده إلى الثمرة والغلة وقيل : إلى الزينة أَتاها أَمْرُنا أي قضاؤنا بهلاكها لَيْلًا أَوْ نَهاراً يعني في الليل أو النهار فَجَعَلْناها حَصِيداً يعني محصودة مقطوعة كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ يعني : كأن لم تكن تلك الأشجار والنبات والزروع نابتة قائمة على ظهر الأرض وأصله من غنى فلان بالمكان إذا أقام به وهو مثل ضربه اللّه سبحانه وتعالى للمتشبثين بالدنيا الراغبين في زهرتها وحسنها وذلك أنه تعالى لما قال : يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا، أتبعه بهذا المثل لمن بغى في الأرض وتجبر فيها وركن إلى الدنيا وأعرض عن الآخرة لأن النبات في أول بروزه من الأرض ومبدأ خروجه يكون ضعيفا فإذا نزل عليه المطر واختلط به قوي وحسن واكتسى كمال الرونق والزينة وهو المراد من قوله حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت يعني بالنبات والزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء وجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون حسن من حمرة وخضرة وصفرة وبياض ولا شك أن الأرض متى كانت على هذه الصفة فإنه يفرح بها صاحبها ويعظم رجاؤه في الانتفاع بها وبما فيها ثم إن اللّه سبحانه وتعالى أرسل على هذه الأرض صاعقة أو بردا أو ريحا فجعلها حصيدا كأن لم تكن من قبل.
قال قتادة : إن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر اللّه وعذابه أغفل ما يكون.


الصفحة التالية
Icon