لباب التأويل، ج ٢، ص : ٤٤٤
الماضين وكل ذلك موافق لما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة قبله ولو لم يكن كذلك لقدحوا فيه لعداوة أهل الكتاب له ولما لم يقدح فيه أحد من أهل الكتاب علم بذلك أن ما فيه من القصص والأخبار مطابقة لما في التوراة والإنجيل مع القطع بأنه ما علم ما فيها فثبت بذلك أنه وحي من اللّه أنزله عليه وأنه مصدق لما بين يديه وأنه معجزة له صلى اللّه عليه وسلم. وقيل في معنى قوله : ولكن تصديق الذي بين يديه يعني من أخبار الغيوب الآتية، فإنها جاءت على وفق ما أخبر وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ يعني وتبيين ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والأحكام لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني أن هذا القرآن لا شك فيه أنه من رب العالمين وأنه ليس مفترى على اللّه وأنه لا يقدر أحد من البشر على الإتيان بمثله وهو قوله سبحانه وتعالى : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ يعني أم يقول هؤلاء المشركون افترى محمد هذا القرآن وخلقه من قبل نفسه وهو استفهام إنكار وقيل أم بمعنى الواو أي ويقولون افتراه قُلْ أي : قل لهم يا محمد إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ يعني بسورة شبيهة به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم فأنتم عرب مثلي في الفصاحة والبلاغة.
فإن قلت : قال اللّه سبحانه وتعالى في سورة البقرة فأتوا بسورة من مثله وقال سبحانه وتعالى هنا فأتوا بسورة مثله فما فائدة ذلك وما الفرق بينهما.
قلت لما كان محمد صلى اللّه عليه وسلم أميا لم يقرأ ولم يكتب وأتى بهذا القرآن العظيم كان معجزا في نفسه فقيل لهم فأتوا بسورة من مثله يعني : مع إنسان أمي مثل محمد صلى اللّه عليه وسلم يساويه في عدم الكتابة والقراءة.
وأما قوله سبحانه وتعالى : فأتوا بسورة مثله أي فأتوا بسورة تساوي سور القرآن في الفصاحة والبلاغة وهو المراد بقوله فأتوا بسورة مثله يعني أن السورة في نفسها معجزة فإن الخلق لو اجتمعوا على ذلك لم يقدروا عليه وهو المراد من قوله : وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني وادعوا للاستعانة على ذلك من استطعتم من خلقه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني في قولكم إن محمدا افتراه ثم قال تعالى : بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ يعني القرآن. أي : كذبوا بما لم يعلموه. قال عطاء : يريد أنه ليس خلق يحيط بجميع علوم القرآن. وقيل : معناه بل كذبوا بما في القرآن من ذكر الجنة والنار والحشر والقيامة والثواب والعقاب وغيرها مما لم يحيطوا بعلمه، لأنهم كانوا ينكرون ذلك كله. وقيل : إنهم لما سمعوا ما في القرآن من القصص وأخبار الأمم الخالية ولم يكونوا سمعوها قبل ذلك أنكروها لجهلهم فرد اللّه سبحانه وتعالى عليهم بقوله بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه لأن القرآن العظيم مشتمل على علوم كثيرة لا يقدر أحد على استيعابها وتحصيلها وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يعني أنهم كذبوا به ولم يأتهم بعد بيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعدهم اللّه في القرآن به من العقوبة. والمعنى : أنهم لم يعلموا ما تؤول إليه عاقبة أمرهم. وقيل : معناه أنهم لم يعلموه تنزيلا ولا علموه تأويلا فكذبوا به وذلك لأنهم جهلوا القرآن وعلمه وعلم تأويله كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني كما كذب هؤلاء بالقرآن كذلك كذب الأمم الماضية أنبياءهم فيما وعدوهم به فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم أي : فانظر يا محمد كيف كان عاقبة من ظلم من الأمم كذلك تكون عاقبة من كذبك من قومك ففيه تسلية للنبي صلى اللّه عليه وسلم وقيل يحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس.
والمعنى : فانظر أيها الإنسان كيف كان عاقبة من ظلم فاحذر أن تفعل مثل فعله.
قوله عز وجل : وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يعني ومن قومك يا محمد من سيؤمن بالقرآن وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ لعلم اللّه السابق فيه أنه لا يؤمن وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ يعني الذين لا يؤمنون.