لباب التأويل، ج ٢، ص : ٤٥٣
أن العزة للّه جميعا وهو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء. وقيل إن المشركين كانوا يتعززون بكثرة أموالهم وأولادهم وعبيدهم فأخبر اللّه سبحانه وتعالى أن جميع ذلك للّه وفي ملكه فهو قادر على أن يسلبهم جميع ذلك ويذلهم بعد العز هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم ودعائكم الْعَلِيمُ بجميع أحوالكم لا تخفى عليه خافية.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٦ الى ٧٠]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
قوله سبحانه وتعالى : أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ألا كلمة تنبيه معناه أنه لا ملك لأحد في السموات ولا في الأرض إلا للّه عز وجل فهو يملك من في السموات ومن في الأرض.
فإن قلت قال سبحانه وتعالى في الآية التي قبل هذه ألا إن للّه ما في السموات بلفظة ما وقال سبحانه وتعالى في هذه الآية بلفظة من فما فائدة ذلك؟ قلت إن لفظة ما تدل على ما لا يعقل ولفظة من تدل على من يعقل فمجموع الآيتين يدل على أن اللّه عز وجل يملك جميع من في السموات ومن في الأرض من العقلاء وغيرهم وهم عبيده وفي ملكه.
وقيل : إن لفظة من لمن يعقل فيكون المراد بمن في السموات الملائكة والعقلاء ومن في الأرض الإنس والجن وهم العقلاء أيضا وإنما خصهم بالذكر لشرفهم وإذا كان هؤلاء العقلاء المميزون في ملكه وتحت قدرته فالجمادات بطريق الأولى أن يكونوا في ملكه إذا ثبت هذا فتكون الأصنام التي يعبدها المشركون أيضا في ملكه وتحت قبضته وقدرته ويكون ذلك قدحا في جعل الأصنام شركاء للّه معبودة دونه وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ لفظة ما استفهاميه معناه وأي شيء يتبع الذي يدعون من دون اللّه شركاء والمقصود تقبيح فعلهم يعني أنهم ليسوا على شيء لأنهم يعبدونها على أنها شركاء للّه تشفع لهم وليس الأمر على ما يظنون وهو قوله سبحانه وتعالى : إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني أن فعلهم ذلك ظن منهم أنها تشفع لهم وأنها تقربهم إلى اللّه وذلك ظن منهم لا حقيقة له وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يعني إن هم إلا يكذبون في دعواهم ذلك.
قوله عز وجل : هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً يعني هو اللّه ربكم الذي خلق لكم الليل راحة لتسكنوا فيه وليزول التعب والكلال بالسكون فيه، وأصل السكون الثبوت بعد الحركة والنهار مبصرا وجعل النهار مضيئا لتهتدوا فيه لحوائجكم وأسباب معايشكم وأضاف الإبصار إلى النهار وإنما يبصر فيه وليس النهار مما يبصر ولكن لما كان مفهوما من كلام العرب معناه خاطبهم بلغتهم وما يفهمونه قال جرير :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
فأضاف النوم إلى الليل ووصفه به وإنما عنى نفسه وأنه لم يكن نائما هو ولا بعيره وهذا من باب نقل الاسم من المسبب إلى السبب قال قطرب تقول العرب أظلم الليل وأبصر النهار بمعنى صار ذا ظلمة وذا ضياء.
قوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يعني يسمعون سمع اعتبار وتدبر فيعلمون بذلك أن الذي