لباب التأويل، ج ٢، ص : ٤٥٥
على الأمر قال ابن الأنباري : المراد من الأمر هنا وجوه كيدهم ومكرهم فالتقدير لا تدعوا من أمركم شيئا إلا أحضرتموه وَشُرَكاءَكُمْ يعني وادعوا شركاءكم يعني آلهتكم فاستعينوا بها لتجمع معكم وتعينكم على مطلوبكم وإنما حثهم على الاستعانة بالأصنام بناء على مذهبهم واعتقادهم أنها تضر وتنفع مع اعتقاده أنها جماد لا تضر ولا تنفع فهو كالتبكيت والتوبيخ لهم ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً يعني لا يكن أمركم عليكم خفيا مبهما ولكن ليكن أمركم ظاهرا منكشفا من قولهم غم الهلال فهو مغموم إذا خفي والتبس على الناس ثُمَّ اقْضُوا ثم امضوا إِلَيَّ بما في أنفسكم من مكروه وما توعدوني به من قتل وطرد وافرغوا منه تقول العرب قضى فلان إذا مات ومضى وقيل معناه ثم اقضوا ما أنتم قاضون وَلا تُنْظِرُونِ أي : ولا تؤخروني ولا تمهلوني بعد إعلامكم إياي ما أنتم عليه وهذا الكلام من نوح عليه السلام على طريق التعجيز لهم أخبر اللّه عز وجل عن نوح عليه السلام أنه كان قد بلغ الغاية في التوكل على اللّه وأنه كان واثقا بنصره غير خائف من كيدهم علما منه بأنهم وآلهتهم ليس لهم نفع ولا ضر وإن مكرهم لا يصل إليه فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ يعني فإن أعرضتم عن قولي وقبول نصحي فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ يعني من جعل وعوض على تبليغ الرسالة فإذا لم يأخذ على تبليغ الدعوة إلى اللّه شيئا كان أقوى تأثيرا في النفس إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي : ما ثوابي وجزائي على تبليغ الرسالة إلا على اللّه وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يعني أني أمرت بدين الإسلام وأنا ماض فيه غير تارك له سواء قبلتموه أم لم تقبلوه وقيل معناه وأمرت أن أكون من المستسلمين لأمر اللّه ولكل مكروه يصل إليّ منكم لأجل هذه الدعوة فَكَذَّبُوهُ يعني فكذبوا نوحا عليه السلام فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ يعني في السفينة
وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ يعني وجعلنا الذين نجيناهم معه في الفلك سكان الأرض بعد الهالكين وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي فانظر يا محمد أو يا أيها الإنسان كيف كان آخر أمر من أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا ولم يقبلوا ذلك.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٤ الى ٨٠]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨)
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠)
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ يعني من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ لم يسم هنا من كان بعد نوح من الرسل وقد كان بعد نوح هود وصالح وغيرهما من الرسل فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات التي تدل على صدقهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ يعني أن أولئك الأقوام والأمم التي جاءتهم الرسل جروا على منهاج قوم نوح في التكذيب ولم يزجرهم ما جاءتهم به الرسل ولم يرجعوا عما هم فيه من الكفر والتكذيب كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ يعني مثل إغراقنا قوم نوح بسبب تكذيبهم نوحا كذلك نختم على قلوب من اعتدى وسلك سبيلهم في التكذيب.
قوله عز وجل : ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد الرسل مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ يعني أشراف قومه بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا يعني عن الإيمان بما جاء به موسى وهارون وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ يعني مستكسبين للإثم فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا يعني فلما جاء فرعون وقومه الحق الذي جاء به موسى من عند