لباب التأويل، ج ٢، ص : ٥١٢
بكناية من يعقل وهذا القول ليس بشيء والأول أصح فإن قلت قد قال إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثم أعاد لفظ الرؤيا ثانيا فقال رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ فما فائدة هذا التكرار.
قلت : معنى الرؤيا الأولى أنه رأى أجرام الكواكب والشمس والقمر ومعنى الرؤيا الثانية أنه أخبر بسجودها له وقال بعضهم.
معناه أنه لمّا قال : إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فكأنه قيل له : وكيف رأيت؟ قال : رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وإنما أفرد الشمس والقمر بالذكر وإن كانا من جملة الكواكب للدلالة على فضلهما وشرفهما على سائر الكواكب قال أهل التفسير : إن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان شديد الحب ليوسف عليه الصلاة والسلام فحسده إخوته لهذا السبب وظهر ذلك ليعقوب، فلما رأى يوسف هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته وأبويه يخضعون له فلهذا قالَ يعقوب يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ يعني لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أي : فيحتالوا في إهلاكك فأمره بكتمان رؤياه عن إخوته لأن رؤيا الأنبياء وحي وحق واللام في فيكيدوا لك كيدا تأكيدا للصلة كقولك : نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ يعني أنه بيّن العداوة، لأن عداوته قديمة فهم إن أقدموا على الكيد كان ذلك مضافا إلى تزيين الشيطان ووسوسته (ق) عن أبي قتادة قال : كنت أرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول «الرؤيا الصالحة من اللّه والرؤيا السوء من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب وإذا رأى أحدكم ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا وليتعوذ باللّه من الشيطان الرجيم وشرها فإنها لن تضره» (خ).
عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه تعالى عنه : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :«إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من اللّه فليحمد اللّه عليها وليحدّث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان فليستعذ باللّه من الشيطان ومن شرّها ولا يذكرها لأحد فإنها لن تضره» (م) عن جابر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ باللّه من الشيطان الرجيم ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه» عن أبي رزين العقيلي قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «رؤيا المؤمن جزء من أربعين وفي رواية جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة وهي على رجل طائر ما لم يحدث بها فإذا حدث بها سقطت قال وأحسبه قال ولا يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا» أخرجه الترمذي، ولأبي داود نحوه قال الشيخ محيي الدين النووي قال المازري مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا أن اللّه تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها علما على أمور أخر يجعلها في ثاني الحال والجميع خلق اللّه تعالى ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي يجعلها علما على ما سر بغير حضرة الشيطان فإذا خلق ما هو علم على ما يضر يكون بحضرة الشيطان فينسب إلى الشيطان مجازا وإن كان لا فعل له في الحقيقة فهذا معنى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم «الرؤيا من اللّه والحلم من الشيطان»، لا على أن الشيطان يفعل شيئا والرؤيا اسم للمحبوب والحلم اسم للمكروه، وقال غيره : إضافة الرؤيا المحبوبة إلى اللّه تعالى إضافة تشريف بخلاف الرؤيا المكروهة وإن كانتا جميعا من خلق اللّه وتدبيره وإرادته ولا فعل للشيطان فيها ولكنه يحضر المكروهة ويرتضيها فيستحب إذا رأى الرجل في منامه ما يحب أن يحدث به من يحب وإذا رأى
ما يكره فلا يحدث به وليتعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ومن شرها وليتفل ثلاثا وليتحول إلى جنبه الآخر فإنها لا تضره فإن اللّه تعالى جعل هذه الأسباب سببا لسلامته من المكروه كما جعل الصدقة سببا لوقاية المال وغيره من البلاء واللّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon