لباب التأويل، ج ٢، ص : ٥٢١
الاعتناء بها والبحث عنها والكلام عليها في مقامين الأول في ذكر أقوال المفسرين في هذه الآية قال المفسرون :
الهمّ هم المقاربة من الفعل من غير دخول فيه، وقيل : الهم مصدر هممت بالشيء إذا أردته وحدثتك نفسك به وقاربته من غير دخول فيه فمعنى قوله ولقد همّت به أي أرادته وقصدته فكان همها به عزمها على المعصية والزنا، وقال الزمخشري : همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه قال الشاعر وهو عمرو بن ضابئ البرجمي :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
وقوله : ولقد همّت به : معناه ولقد همت بمخالطته وهم بها أي وهم بمخالطتها لولا أن رأى برهان ربه جوابه محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربه لخالطها قال البغوي وأما همه بها فروي عن ابن عباس أنه قال حلّ الهميان وجلس منها مجلس الخائن، وقال مجاهد : حل سراويله وجعل يعالج ثيابه، وهذا قول أكثر المفسرين منهم سعيد بن جبير والحسن وقال الضحاك : جرى الشيطان بينهما فضرب بيده إلى جيد يوسف وبيده الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع بينهما، قال أبو عبيدة القاسم بن سلام : وقد أنكر قوم هذا القول قال البغوي : والقول ما قاله قدماء هذه الأمة وهم كانوا أعلم باللّه أن يقولوا في الأنبياء من غير علم، قال السدي وابن إسحاق : لما أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوقه إلى نفسها فقالت : يا يوسف ما أحسن شعرك، قال : هو أول ما ينتثر عن جسدي، قالت : ما أحسن عينيك، قال : هي أول ما يسيل على خدي في قبري، قالت : ما أحسن وجهك، قال : هو للتراب يأكله. وقيل : إنها قالت له إن فراش الحرير مبسوط قم فاقض حاجتي قال : إذن يذهب نصيبي من الجنة. فلم تزل تطمعه وتدعوه إلى اللذة وهو شاب يجد من شبق الشباب ما يجده الرجل وهي امرأة حسناء جميلة حتى لان لها لما يرى من كلفها به فهم بها ثم إن اللّه تدارك عبده يوسف بالبرهان الذي ذكره وسيأتي الكلام على تفسير البرهان الذي رآه يوسف عليه الصلاة والسلام فهذا ما قاله المفسرون في هذه الآية أما المقام الثاني في تنزيه يوسف عليه الصلاة والسلام عن هذه الرذيلة وبيان عصمته من هذه الخطيئة التي ينسب إليها.
قال بعض المحققين : الهم همان فهم ثابت وهو ما كان معه عزم وقصد وعقيدة رضا مثل هم امرأة العزيز فالعبد مأخوذ به وهم عارض وهو الخطرة في القلب وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف فالعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل به ويدل على صحة هذا ما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : يقول اللّه تبارك وتعالى : إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة واحدة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له عشرة لفظ مسلم وللبخاري بمعناه (ق).
عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل قال إن اللّه كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها اللّه له عنده حسنة كاملة فإن هم بها وعملها كتبها اللّه له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومن همّ بسيئة ولم يعملها كتبها اللّه له عنده حسنة وإن هو هم بها فعملها كتبها اللّه له عليه سيئة واحدة» زاد في رواية أو محاها «و لن يهلك على اللّه إلا هالك» قال القاضي عياض في كتابه الشفاء فعلى مذهب كثير من الفقهاء المحدثين إن هم النفس لا يؤاخذ به وليس سيئة وذكر الحديث المتقدم فلا معصية في هم يوسف إذن وأما على مذهب المحققين من الفقهاء والمتكلمين فإن الهم إذا وطنت عليه النفس كان سيئة وأما ما لم توطن عليه النفس من همومها وخواطرها فهو المعفو عنه هذا هو الحق فيكون إن شاء اللّه هم يوسف من هذا ويكون قوله وما أبرئ نفسي الآية أي ما أبرئها من هذا الهم أو يكون ذلك على طريق التواضع والاعتراف بمخالفة النفس لما زكي قبل وبرئ فكيف وحكى أبو حاتم عن عبيدة أن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يهم وأن الكلام فيه تقديم وتأخير أي ولقد همت به ولولا أن أري برهان ربه لهمّ بها وقال


الصفحة التالية
Icon