لباب التأويل، ج ٢، ص : ٥٢٨
أنت قال أنا يوسف بن صفي اللّه يعقوب بن ذبيح اللّه إسحاق بن خليل اللّه إبراهيم فقال له صاحب السجن يا فتى واللّه لو استطعت لخليت سبيلك ولكن سأرفق بك وأحسن جوارك واختر أي بيوت السجن شئت وقيل إن الفتيين لما رأيا يوسف قالا إنا قد أحببناك منذ رأيناك فقال لهما يوسف أنشدكما باللّه أن لا تحباني فو اللّه ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من ذلك بلاء وأحبني أبي فألقيت في الجب وأحبتني امرأة العزيز فحبست فلما قصا عليه رؤياهما كره يوسف أن يعبرها لهما حين سألاه لما علم ما في ذلك من المكروه لأحدهما وأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والنبوة والدعاء إلى التوحيد وقيل إنه عليه السلام أراد أن يبين لهما أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدا فيه وذلك أنهما طلبا منه علم التعبير ولا شك أن هذا العلم مبني على الظن والتخمين فأراد أن يعلمهما أنه يمكنه الإخبار عن المغيبات على سبيل القطع واليقين وذلك مما يعجز الخلق عنه وإذا قدر على الإخبار عن الغيوب كان أقدر على تعبير الرؤيا بطريق الأولى. وقيل : إنما عدل عن تعبير رؤياهما إلى إظهار المعجزة لأنه علم أن أحدهما سيصلب فأراد أن يدخله في الإسلام ويخلصه من الكفر ودخول النار فأظهر له المعجزة لهذا السبب.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨)
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قيل : أراد به في النوم يقول لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما إلا أخبرتكما خبره في اليقظة، وقيل : أراد به اليقظة يقول لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه يعني تطعمانه وتأكلانه إلا نبأتكما بتأويله يعني أخبرتكما بقدره ولونه والوقت الذي يصل إليكما فيه قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما يعني قبل أن يصل إليكما وأي طعام أكلتم وكم أكلتم ومتى أكلتم وهذا مثل معجزة عيسى عليه الصلاة والسلام حيث قال وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فقالا ليوسف عليه الصلاة والسلام هذا من علم العرافين والكهنة فمن أين لك هذا العلم؟ فقال ما أنا بكاهن ولا عراف وإنما ذلك إشارة إلى المعجزة والعلم الذي أخبرهما به ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي يعني أن هذا الذي أخبرتكما به وحي من اللّه أوحاه إليّ وعلم علمنيه إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فإن قلت ظاهر قوله اني تركت ملة قوم لا يؤمنون باللّه أنه عليه الصلاة والسلام كان داخلا في هذه الملة ثم تركها وليس الأمر كذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من حين ولدوا وظهروا إلى الوجود هم على التوحيد فما معنى هذا الترك في قوله تركت.
قلت الجواب من وجهين : الأول : أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء والالتفات إليه بالمرة وليس من شرطه أن يكون قد كان داخلا فيه ثم تركه ورجع عنه.
والوجه الثاني : وهو الأقرب أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما كان عند العزيز وهو كافر وجميع من عنده كذلك وقد كان بينهم وكان يوسف على التوحيد والإيمان الصحيح صح قوله إني تركت ملة قوم لا يؤمنون باللّه وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فترك ملتهم وأعرض عنهم ولم يوافقهم على ما كانوا عليه وتكرير لفظة هم في قوله وهم بالآخرة هم كافرون للتوكيد لشدة إنكارهم للمعاد وقوله وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ لما ادعى يوسف عليه السلام النبوة وأظهر المعجزة أظهر أنه من أهل بيت النبوة وأن آباءه كلهم كانوا أنبياء وقيل لما كان إبراهيم وإسحاق ويعقوب مشهورين بالنبوة والرسالة ولهم الدرجة العليا في الدنيا عند الخلق والمنزلة الرفيعة في الآخرة أظهر يوسف عليه الصلاة والسلام أنه من أولادهم وأنه من أهل بيت النبوة ليسمعوا قوله