لباب التأويل، ج ٢، ص : ٥٣
فأنزل اللّه هذه الآية. وقال السدي : لما كانت وقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أمانا إني أخاف أن يدال علينا اليهود. وقال رجل آخر : أنا ألحق بفلان النصراني من أهل الشام وآخذ منه أمانا. فأنزل اللّه هذه الآية ينهاهم عن موالاة اليهود والنصارى.
وقال عكرمة : نزل في أبي لبابة بن عبد المنذر لما بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا : ماذا يصنع بنا إذا نزلنا؟ فجعل إصبعه في حلقه أشار إلى أنه الذبح وأنه يقتلكم فأنزل اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ فنهى اللّه المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وأعوانا على أهل الإيمان باللّه ورسوله وأخبر أنه من اتخذهم أنصارا وأعوانا وخلفاء من دون اللّه ورسوله والمؤمنين فإنه منهم وإن اللّه ورسوله والمؤمنين منه براء بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يعني أن بعض اليهود أنصار لبعض على المؤمنين وأن النصارى كذلك يد واحدة على من خالفهم في دينهم وملتهم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ يعني ومن يتولّ اليهود والنصارى دون المؤمنين فينصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم لأنه لا يتولى مولى إلا وهو راض به وبدينه وإذا رضيه ورضى دينه صار منهم وهذا تعليم من اللّه تعالى وتشديد عظيم في مجانبة اليهود والنصارى وكل من خالف دين الإسلام إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني أن اللّه لا يوفق من وضع الولاية في غير موضعها فتول اليهود والنصارى مع علمه بعداوتهم للّه ولرسوله وللمؤمنين، روي أن أبا موسى الأشعري قال : قلت لعمر بن الخطاب : إن لي كاتبا نصرانيا فقال : مالك وله قاتلك اللّه ألا اتخذت حنيفا؟
يعني مسلما أما سمعت قول اللّه عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ قلت : له دينه ولي كتابته. فقال : لا أكرّمهم إذا أهانهم اللّه ولا أعزهم إذا أذلهم اللّه ولا أدنيهم إذا أبعدهم اللّه. قلت : إنه لا يتم أمر البصرة إلا به. فقال : مات النصراني والسلام يعني : هب أنه مات فما تصنع بعده فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره من المسلمين.
قوله تعالى : فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني فترى يا محمد الذين في قلوبهم شك ونفاق يُسارِعُونَ فِيهِمْ يعني يسارعون في مودة اليهود وموالاتهم ومناصحتهم لأنهم كانوا أهل ثروة ويسار فكانوا يغشونهم ويخالطونهم لأجل ذلك. نزلت في عبد اللّه بن أبي، المنافق وفي أصحابه من المنافقين يَقُولُونَ يعني المنافقين نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ الدائرة من دوائر الدهر كالدولة التي تدول والمعنى. يقول المنافقون : إنما نخالط اليهود لأنا نخشى أن يدور علينا الدهر بمكروه، ويعنون بذلك المكروه الهزيمة في الحرب والقحط والجدب والحوادث المخوفة. قال ابن عباس : معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور علينا الأمر كما كان قبل محمد فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ قال المفسرون : عسى من اللّه واجب لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله وهو بمنزلة الواعد لتعلق النفس به ورجائها له والمعنى فعسى اللّه أن يأتي بالفتح لرسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم على أعدائه وإظهاردينه على الأديان كلها وإظهار المسلمين على أعدائهم من الكفار واليهود والنصارى وقد فعل اللّه ذلك بمنّه وكرمه فأظهر دينه ونصر عبده. وقيل : أراد بالفتح فتح مكة. وقيل : فتح قرى اليهود مثل خيبر وفدك ونحوهما من بلادهم أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يعني أنه تعالى يقطع أصل اليهود من أرض الحجاز ويخرجهم من بلادهم بلا كلفة وتعب ولا يكون للناس فيه فعل البتة كما ألقى في قلوبهم الرعب فأخلوا ديارهم وخربوها بأيديهم ورحلوا إلى الشام.
وقوله تعالى : فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ يعني فيصبح المنافقون الذين كانوا يوالون اليهود نادمين على ما حدثوا به أنفسهم أنّ أمر محمد لا يتم وقيل ندموا على دس الأخبار إلى اليهود.