لباب التأويل، ج ٢، ص : ٥٥١
على فقدهما وهو مع ذلك صابر لم يشك إلى أحد شيئا مما نزل به وإنما كانت شكايته إلى اللّه عز وجل بدليل قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه فاستوجب بذلك المدح العظيم والثناء الجميل في الدنيا والدرجات العلى في الآخرة مع من سلف من أبويه إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام.
وأما دمع العين وحزن القلب فلا يستوجب به ذما ولا عقوبة لأن ذلك ليس إلى اختيار الإنسان فلا يدخل تحت التكليف بدليل أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم عند موته وقال «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وما نقول إلا ما يرضي ربنا» فهذا القدر لا يقدر الإنسان على دفعه عن نفسه فصار مباحا لا حرج فيه على أحد من الناس وقوله أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
يعني أنه تعالى من رحمته وإحسانه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب وفيه إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف ويتوقع رجوعه إليه وروى أن ملك الموت زار يعقوب فقال له يعقوب أيها الملك الطيب ريحه الحسن صورته الكريم على ربه هل قبضت روح ابني يوسف في الأرواح فقال لا فطابت نفس يعقوب وطمع في رؤيته فلذلك قال وأعلم من اللّه ما لا تعلمون وقيل معناه وأعلم أن رؤيا يوسف حق وصدق وإني وأنتم سنسجد له وقال السدي لما أخبره بنوه بسيرة ملك مصر وكمال حاله في جميع أقواله وأفعاله أحسست نفس يعقوب وطمع أن يكون هو يوسف فعند ذلك قال يعني يعقوب.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩)
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ التحسس طلب الخبر بالحاسة وهو قريب من التجسس بالجيم وقيل إن التحسس بالحاء يكون في الخير وبالجيم يكون في الشر ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورات الناس قال ابن عباس التمسوا قال ابن الأنباري يقال تحسست عن فلان ولا يقال من فلان وقال هنا من يوسف وأخيه لأنه أقيم من مقام عن قال ويجوز أن يقال من للتبعيض ويكون المعنى تحسسوا خبرا من أخبار يوسف وأخيه، روي عن عبد اللّه بن يزيد عن أبي فروة أن يعقوب كتب كتابا إلى يوسف عليهما الصلاة والسلام حين حبس عنده بنيامين : من يعقوب إسرائيل اللّه بن إسحاق ذبيح اللّه بن إبراهيم خليل اللّه إلى ملك مصر أما بعد فإنا أهل بيت وكل بنا البلاء أما جدي إبراهيم فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها اللّه بردا وسلاما وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ففداه اللّه وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي ثم كان لي ابن آخر وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به وإنك حبسته وزعمت أنه سرق وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته إليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك فلما قرأ يوسف كتاب أبيه اشتد بكاؤه وعيل صبره وأظهر نفسه لإخوته على ما سنذكره إن شاء اللّه تعالى فذلك قوله تعالى يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه وَلا تَيْأَسُوا أي ولا تقنطوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ يعني من رحمة اللّه وقيل من فضل اللّه وقيل من فرج اللّه إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ يعني أن المؤمن على خير يرجوه من اللّه فيصبر عند البلاء فينال به خيرا ويحمد عند الرخاء فينال به خيرا والكافر بضد ذلك.
قوله تعالى : فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ فيه حذف واختصار تقديره فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر فلما