لباب التأويل، ج ٢، ص : ٦٧
قوله تعالى : قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم أي : قل يا محمد لهؤلاء النصارى أتعبدون من دون اللّه ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً يعني لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم اللّه به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ولا يقدر أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم اللّه به من صحة الأبدان وسعة الأرزاق فإن الضار والنافع هو اللّه تعالى لا من تعبدون من دونه ومن لم يقدر على النفع والضر لا يكون إلها وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يعني أنه تعالى سميع لأقوالكم وكفركم عليم بما في ضمائركم.
قوله عز وجل : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ. الغلوّ : مجاوزة الحد وذلك أن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط فمجاوزة الحد والتقصير مذمومان في الدين غَيْرَ الْحَقِّ يعني : لا تغلوا في دينكم غلوا باطلا غير الحق وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم ثم غلوا في الإصرار عليه وكلا الفريقين من اليهود والنصارى غلوا في عيسى عليه السلام، أما غلوّ اليهود فالتقصير في حقه حتى نسبوه إلى غير رشدة، وأما غلوّ النصارى فمجاوزة الحد في حقه حتى جعلوه إلههم وكلا الغلوين مذموم وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ الأهواء جمع هوى وهو ما تدعو شهوة النفس إليه، قال الشعبي : ما ذكر اللّه تعالى الهوى في القرآن إلا وذمه وقال أبو عبيدة :
لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر لأنه لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال فلان يحب الخير ويريده والخطاب في قوله ولا تتبعوا أهواء قوم لليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم وهو المراد بقوله أهواء قوم قد ضلوا من قبل فبين اللّه تعالى أنهم كانوا على ضلاله وَأَضَلُّوا كَثِيراً يعني من اتبعهم على ضلالتهم وأهوائهم وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ يعني وأخطئوا عن قصد طريق الحق.
قوله تعالى : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ قال أكثر المفسرين : هم أصحاب السبت لما اعتدوا في السبت واصطادوا الحيتان فيه. قال داود عليه السلام : اللهم العنهم واجعلهم قردة فمسخوا قردة وستأتي قصتهم في سورة الأعراف وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يعني وعلى لسان عيسى ابن مريم وهم كفار أصحاب المائدة لما أكلوا منها وادخروا ولم يؤمنوا قال عيسى عليه السلام اللهم العنهم واجعلهم خنازير فمسخوا خنازير وستأتي قصتهم.
وقال بعض العلماء : إن اليهود كانوا يفتخرون بآبائهم ويقولون نحن من أولاد الأنبياء عليهم السلام، فأخبر اللّه تعالى بأنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء عليهم السلام. وقيل : إن داود وعيسى بشّرا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ولعنا من يكفر به ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ يعني ذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم ثم فسر الاعتداء والمعصية فقال تعالى : كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي لا ينهى بعضهم بعضا عن منكر. وقيل : معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ولا عن الإصرار عليه لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ اللام في لبئس لام القسم أي أقسم لبئس ما كانوا يفعلون يعني من ارتكاب المعاصي والعدوان. عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق اللّه ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك، ضرب اللّه قلوب بعضهم ببعض ثم قال لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما