لباب التأويل، ج ٣، ص : ١١٩
عدوك وأنجيتك منهم، وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب، وخمسة نفر من كتابه أحدهم بختنصر. فلما أصبحوا جاء صارخ يصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن اللّه قد كفاك عدوك، فاخرج فإن سنحاريب ومن معه هلكوا فخرج الملك، والتمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمس نفر من كتابه، أحدهم بختنصر فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم الملك فلما رآهم خر ساجدا للّه تعالى، من حين طلعت الشمس إلى العصر ثم قال لسنحاريب : كيف رأيت فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنجاريب : قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم فقال الملك صديقة : الحمد للّه رب العالمين الذي كفاناكم بما شاء، وإن ربنا لم يمتعك ومن معك لكرامتك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم، فتنذروا من بعدكم ولولا ذلك لقتلك ومن معك ولدمك ودم من معك أهون على اللّه من دم قراد لو قتلت. ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه أن يقذف في رقابهم الجوامع، ففعل وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء، وكان يرزقهم في كل يوم خبزين من شعير لكل رجل منهم فقال سنحاريب للملك صديقة : القتل خير مما نحن فيه وما تفعل بنا فأمر بهم إلى السجن فأوحى اللّه إلى شعياء النبي أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم.
فبلغ ذلك شعياء للملك ففعل وخرج سنحاريب ومن معه، حتى قدموا بابل فلما قدم جمع الناس فأخبرهم كيف فعل اللّه تعالى بجنوده فقال له كهانه وسحرته : يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي اللّه إلى نبيهم، فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم وكان أمر سنحاريب تخويفا لبني إسرائيل، ثم كفاهم اللّه تعالى ذلك تذكرة وعبرة ثم إن سنحاريب لبث بعد ذلك سبع سنين، ثم مات، واستخلف على ملكه بختنصر ابن ابنه فعمل بعمله وقضى بقضائه فلبث سبع عشرة سنة ثم قبض اللّه ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضا، وشعياء نبيهم معهم لا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك، قال اللّه لشعياء :- قم في قومك حتى أوحي على لسانك. فلما قام أطلق اللّه لسانه بالوحي فقال : يا سماء استمعي ويا أرض أنصتي، فإن اللّه يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته واصطفاهم لنفسه وخصهم بكرامته، وفضلهم على عباده وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها، وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الحين. إن البعير مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الخير، وهم أولوا الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه، قل كيف ترون في أرض كانت خرابا زمانا لا عمران فيها، وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة، وكره أن تخرب أرضه
وهو قوي أو يقال : ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصرا وأنبط فيها نهرا وصفّ فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه قيّما ذا رأي وهمة حفيظا قويا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا. فقالوا : بئست الأرض هذه فنرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها، ويقبض قيّمها ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا، لا عمران فيها قال اللّه تعالى : قل لهم الجدار ديني والقصر شريعتي وإن النهر كتابي وأن القيّم نبيي وأن الغراس هم، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وأنه مثل ضربته لهم يتقربون إليّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالني اللحم ولا آكله ويدّعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف عن ذبح