لباب التأويل، ج ٣، ص : ١٤٥
اثنتين ولم يجب عن واحد فهو نبي فسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان شأنهم، فإنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها ما خبره وعن الروح قال فسألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : أخبركم بما سألتم غدا، ولم يقل إن شاء اللّه فلبث الوحي. قال مجاهد : اثني عشر يوما وقيل : خمسة عشر يوما وقيل أربعين يوما وأهل مكة يقولون : قد وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء، حتى حزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى : وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ونزل في الفتية أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب، قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ونزل في الروح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي واختلفوا في الذي وقع السؤال عنه، فروي عن ابن عباس أنه جبريل وعن علي أنه ملك له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح اللّه تعالى بكلها. وقال مجاهد : خلق على صورة بني آدم، لهم أيد وأرجل ورؤوس ليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام. وقال سعيد بن جبير : لم يخلق اللّه خلقا أعظم من الروح غير العرش لو شاء أن يبتلع السموات والأرض ومن فيها بلقمة واحدة لفعل ذلك صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، يقوم يوم القيامة على يمين العرش، وهو أقرب الخلق إلى اللّه تعالى اليوم عند الحجب السبعين وأقرب الخلق إلى اللّه يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد، ولولا أن بينه وبين الملائكة سترا من نور لاحترق أهل السموات من نوره. وقيل : الروح هو القرآن لأن اللّه سماه روحا ولأن به حياة القلوب.
وقيل : هو الروح المركب في الخلق الذي به يحيى الإنسان وهو أصح الأقوال. وتكلم قوم في ماهية الروح فقال بعضهم : هو الدم ألا ترى أن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم. وقال قوم : هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس. وقال قوم : هو عرض. وقال قوم : هو جسم لطيف يحيا به الإنسان. وقيل : الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء، ألا ترى أنه إذا كان موجودا يكون الإنسان موصوفا بجميع هذه الصفات إذا خرج منه ذهب الكل. وأقاويل الحكماء والصوفية في ماهية الروح كثيرة، وليس هذا موضع استقصائها وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى اللّه عز وجل وهو قول أهل السنة قال عبد اللّه بن بريدة : إن اللّه لم يطلع على الروح ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بدليل قوله : قل الروح من أمر ربي أي من علم ربي الذي استؤثر به وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ من علم ربي إِلَّا قَلِيلًا أي في جنب علم اللّه عز وجل الخطاب عام. وقيل : هو خطاب لليهود فإنهم كانوا يقولون : أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير، فقيل لهم : إن علم التوراة قليل في جنب علم اللّه. وقيل إن القلة والكثرة تدوران مع الإضافة فوصف الشيء بالقلة مضافا إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافا إلى ما تحته وقيل : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم علم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك الإخبار به كان علما لنبوته. والقول الأصح هو أن اللّه عز وجل استأثر بعلم الروح.
قوله عز وجل وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ومعناه أنا كما منعنا علم الروح عنك وعن غيرك، إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف، فلم نترك له أثرا وبقيت كما كنت ما تدري ما الكتاب ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا معناه لا تجد بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده عليك، وإعادته محفوظا مستورا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ معناه إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، وقيل هو على الاستثناء المنقطع. معناه لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من اللّه تعالى ببقاء القرآن محفوظا، فإن قلت كيف يذهب بالقرآن وهو كلام اللّه عز وجل؟ قلت : المراد منه محو ما في المصاحف و
إذهاب ما في الصدور وقال عبد اللّه بن مسعود :«اقرءوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع» قيل : هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الناس قال :
يسرى عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا، ولا يجدون مما في المصاحف شيئا ثم يفيضون في الشعر وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال «لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل. له


الصفحة التالية
Icon